العقود الإدارية
التصرفات القانونية التي تجريها لإدارة وتقصد بها إلى إحداث الآراء القانونية , أما أن تتمثل بالتصرفات التي تقوم بها الإدارة من جانب واحد وبإرادتها المنفردة وتشمل القرارات والأوامر الإدارية التي أوضحناها سابقاً .
وأما أن تتمثل بالأعمال القانونية الصادرة عن الإدارة بالاشتراك مع بعض الأفراد بحيث تتوافق الإدارتان وتتجهان نحو إحداث أثر قانوني معين و لجأ الإدارة إلى إتباع هذا الأسلوب لتحقيق هدفها في إشباع الحاجات العامة , وفق ما يمكن تسميته بعقود الإدارة .
والعقود التي تبرمها الإدارة لا تخضع لنظام قانوني واحد ، فهي على نوعين: الأول عقود الإدارة التي تخضع للقانون الخاص والتي تماثل العقود التي يبرمها الأفراد في نطاق القانون الخاص ، والنوع الثاني هي العقود الإدارية التي تخضع للقانون العام والتي تبرمها الإدارة باعتبارها سلطة عامة تستهدف تنظيم مرفق عام أو تشغيله .
تمت تقسيم هذا الباب إلى خمسة فصول كما يلي :
الفصل الأول: ظهور فكرة العقود الإدارية.
الفصل الثاني: معيار تمييز العقد الإداري .
الفصل الثالث: إبرام العقود الإدارية .
الفصل الرابع: الحقوق والإلتزامات الناشئة عن العقد الإداري .
الفصل الخامس: نهاية العقود الإدارية .
الفصل الأول
ظهور فكرة العقود الإدارية
لم تظهر فكرة العقود الإدارية ألا في تاريخ متأخر لا يتجاوز مطلع القرن العشرين , وقد مر تحديد مفهوم نظرية العقود الإدارية وأسسها العامة بتطور استغرق حقبة طويلة من الزمن .
وفي هذا الفصل نتناول بالدراسة نشأة نظرية العقود الإدارية , ثم نبحث في استقلال هذه النظرية والتعريف بالعقد الإداري .
المبحث الأول
نشأة العقود الإدارية
حظيت مشكلة تحديد نشاط السلطة العامة باهتمام كبير من رجال القانون والإدارة، واختلف هذا الاهتمام تبعاً للأفكار السياسية التي يؤمن بها كل منهم .
ولعل أبرز مذهبين كان لهما التأثير في هذا المجال هما المذهب الفردي الحر والمذهب التدخلي المعاصر ، حيث وضع كل منهما أسلوباً محدداً لدور الدولة ووظيفتها في مختلف المجالات وفقاً للفلسفة السياسية التي يؤمن بها .
وكان لانتصار مفهوم الدولة التدخلية وتوسيع مجال نشاط السلطة العامة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ، وانتشار المرافق العامة المهنية والاقتصادية الفضل في خلق مبادئ قانونية جديدة هي مبادئ القانون الإداري تتميز عن قواعد القانون الخاص وتتماشى مع طبيعة نشاط الإدارة وهدفها ولا تغفل في الوقت نفسه حقوق الأفراد وحرياتهم ، وساهم في ذلك بشكل كبير مجلس الدولة الفرنسي الذي يعود له الفضل في تأسيس العديد من نظريات القانون الإداري ومنها نظرية العقود الإدارية .
وقد طبقت مصر أحكام العقود الإدارية عقب إنشاء مجلس الدولة في عام 1964 واختص مجلس الدولة بنظر منازعات العقود الإدارية بصدور القانون رقم 9 لسنة 1949.
اما في العراق فقد بقيت مسألة العقود الادارية يكتنفها الغموض وعدم الوضوح على الرغم من الغاء المحاكم الادارية وتعديل قانون مجلس شورى الدولة بالقانون رقم 106 لسنة 1989 الذي تم به انشاء محكمة القضاء الاداري في العراق فقد استبعد القانون المذكور منازعات العقود الادارية من اختصاص المحكمة .
ومن ثم بقي القضاء العادي صاحب الولاية في نظر المنازعات المتعلقة بالعقود الادارية اذ تنص المادة 29 من قانون المرافعات المدنية رقم 83 لسنة 1969 ( تسري ولاية المحاكم المدنية على جميع الاشخاص الطبيعية والمعنوية بما في ذلك الحكومة وتختص بالفصل في كافة المنازعات الا ما استثني بنص خاص ).
الا ان ذلك لم يمنع القضاء العراقي من مواكبة تطور نظريات القانون الاداري في فرنسا ومصر والتمييز بين العقود الادارية والعقود المدنية والاعتراف للادارة بإمتيازات غير مألوفة .
جاء في قرار محكمة التمييز عدد 1584 في24- 1 - 1966 (لاجناح على المحاكم اذا ماطرح عليها نزاع حول هذه العقود ان تمارس في قضائها مهمة القضاء الاداري وما درج علية من حلول للتوفيق بين المصالح العامة وبين حماية الافراد وحقوقهم لان ولاية المحاكم تتسع لجميع المنازعات الا ما استثني بنص خاص ).
المبحث الثاني
استقلال نظرية العقود الإدارية
نشأ الكثير من الجدل حول الطبيعة القانونية للعقود التي تبرمها الدولة مع الغير ، وقد دار هذا النقاش بين قدسية الإلتزامات التعاقدية وبين إمتيازات الدولة التشريعية والإدارية التي تمارس من خلال أجهزتها لتحقيق المصلحة العامة .( )
ولا شك أن العقد الإداري ناتج عن توافق ارادتين على إنشاء الالتزام شأنه شأن عقود القانون الخاص وفي هذا المعنى يتضح أن العناصر الأساسية في كلا العقدين واحدة، فيجب أن يتوافر الرضا ويجب أن يكون صحيحاً وصادراً من الجهة الإدارية المختصة ، وسليماً من العيوب.
ألا فيما يتعلق بالأهلية ، فأحكامها في العقد الإداري ليست كما هي عليه في العقد المدني لاختلاف أهلية الإدارة عن أهلية الشخص الطبيعي في الحكم .( )
كما يتميز العقد الإداري في أن الإدارة تكون دائماً طرفاً فيه ، وأن تكوينه وأن كان يتم بتوافق إرادتين لا يكون بمجرد إفصاح فرد معين من أعضاء السلطة الإدارية عن أرادته و إنما يتكون من عدة أعمال قانونية ، يشترك فيها أكثر من عضو من أعضاء السلطة الإدارية ، لأن الاختصاصات الإدارية لا ترتكز في يد واحدة. ( )
كذلك يجب أن يتوافر السبب في العقود الإدارية مثلما هو الحال بالنسبة لعقود القانون الخاص مع ضرورة أن يكون الباعث الدافع في العقود الإدارية هو تحقيق المصلحة العامة .
وكما هو الشأن في عقود القانون الخاص يجب أن يكون السبب موجوداً ومشروعاً وألا عد العقد باطلاً . من جهة أخرى يشترط في محل العقد الإداري أن يكون محدداً أو قابلاً للتحديد ومشروعاً . ( )
والمحل يتمثل في الحقوق والإلتزامات التي ينشئها العقد على طرفيه كما هو الحال في عقود القانون الخاص مع ضرورة الذكر بأن محل العقد الإداري يتميز بمرونة خاصة توفرها الإمتيازات الممنوحة لجهة الإدارة والتي تخولها تعديل إلتزامات المتعاقدين في بعض الأحيان تحقيقاً للمصلحة العامة .
وبسبب التشابه الكبير بين الأركان في هذين العقدين ، لم يتفق الشراح على موقف واحد إزاء استقلال نظرية العقد الإداري عن النظرية التقليدية لعقود القانون الخاص ، وقد برز اتجاهان :
الاتجاه الأول :
ذهب الأستاذ Dugit إلى أنه لا يوجد فرق أساسي بين العقد المدني والعقد الإداري لأنهما متفقان في عناصرهما الجوهرية فالعقد الإداري يتمتع دائماً بالخصائص نفسها والآثار عينها .
وعلى هذا الأساس لا يوجد عقد إداري متميز عن العقود التي تبرم بين الأفراد ولكن يوجد اختلاف في الاختصاص القضائي فقط إذ يرفع النزاع أمام القضاء الإداري لأن الإدارة تبرز في العقد بصفتها سلطة عامة وبقصد تسيير مرفق عام وإدارته . والفرق بين هذه العقود والعقود المدنية يشبه تماما الفرق بين العقد المدني والعقود التجارية التي تخضع للمحاكم التـجارية لاستهدفها أغراضـا تجارية . ( )
الاتجاه الثاني:
يمثل هذا الاتجاه الذي يختلف عن السابق طائفـة من الفقـهاء منهم الأستاذ . Jeze ( ) و de laubadere .( ) اللذان ذهبا إلى أن النظام القضائي في القانون الإداري نظام خاص مستقل عن نظام القانون الخاص لاختلاف منابعهما ومصادرهما القانونية الأساسية ، كما أن العقود الإدارية تختلف هي أيضاً عن عقود القانون الخاص من حيث نظام منازعاتها والقواعد الأساسية التي تختلف بصورة عامة عن قواعد القانون المدني وتناقضها أحياناً ، وهذه الخصوصية تمليها متطلبات المصلحة العامة التي تهدف العقود الإدارية إلى تحقيقها .
والحق أنه لا يمكننا التسليم بما ذهب إليه الاتجاه الأول وأن كان ينطوي على حقيقة مفادها وجود نقاط توافق كبيرة بين العقود الإدارية وعقود القانون الخاص ، ألا أن هذا التوافق لا ينفي وجود نظام قانوني متميز يخضع له العقد الإداري ، ينبذ الفكرة القائلة بوحدة العقد سواء إبرام بين الأفراد أم بينهم وبين الدولة.
ففي الوقت الذي تكون فيه المصالح متكافئة والمتعاقدان متساويين في عقود القانون الخاص نجد أن المصلحة العامة في ظل عقود القانون العام تتميز بالأولوية إذ تقدم المصلحة العامة للإدارة على المصلحة الخاصة للأفراد .( )
والإدارة بهذه الحال وبوصفها قائمة على تحقيق المصلحة العامة تتمتع بحقوق و إمتيازات لا يتمتع بها المتعاقد معها تخولها حق مراقبة تنفيذ العقد وتوجيه المتعاقد نحو الأسلوب الأصلح في التنفيذ ، وحق تعديل شروط العقد بإرادتها المنفردة ، دون أن يستطيع المتعاقد أن يتمسك بقاعدة أن العقد شريعة المتعاقدين يضاف إلى ذلك بعض الحقوق و الإمتيازات الأخرى التي لا مثيل لها في عقود القانون الخاص ، التي لا تهدر مصلحة المتعاقد وإنما تجعل مصلحته ثانوية بالنسبة للمصلحة العامة .( )
المبحث الثالث
التعريف بالعقد الإداري
اختلف القضاء و الفقه في وضع تعريف محدد للعقود الإدارية، وقد حاول القضاء الإداري في فرنسا ومصر والعراق حسم هذا الخلاف بتحديد المبادئ الرئيسية للعقود الإدارية.
وفي ذلك عرفت المحكمة الإدارية العليا في مصر العقد الإداري بأنه" العقد الذي يبرمه شخص معنوي من أشخاص القانون العام بقصد إدارة مرفق عام أو بمناسبة تسييره، وأن تظهر نيته في الأخذ بأسلوب القانون العام، وذلك بتضمين العقد شرطاً أو شروطاً غير مألوفة في عقود القانون الخاص".( )
وقد أيد جانب كبير من الفقهاء في مصر هذا الاتجاه، منهم الدكتور سليمان محمد الطماوي، الذي ذهب إلى أن العقد الإداري" هو العقد الذي يبرمه شخص معنوي عام بقصد تسيير مرفق عام أو تنظيمه، وتظهر في نية الإدارة في الأخذ بأحكام القانون العام، وآية ذلك أن يتضمن شروطاً استثنائية وغير مألوفة في القانون الخاص أو يخول المتعاقد مع الإدارة الاشتراك مباشرة في تسيير المرفق العام" . ( )
ويبدو أن الرأي الغالب سواء في مصر أم العراق قد أستقر على أن العقد يكتسب صفته الإدارية إذا توافرت فيه ثلاثة عناصر هي :
1- أن يكون أحد طرفي العقد شخصاً معنوياً.
2- أن يتصل هذا العقد بمرفق عام .
3- أن تختار الإدارة وسائل القانون العام .
الفصل الثاني
المعيار المميز للعقد الإداري
مر تمييز العقد الإداري عن عقود الإدارة الأخرى بمراحل زمنية متعاقبة بدأت بمحاولة المشرع تمييز عقود الإدارة بإرادته، وفق ما يسمى في نظرية العقد الإداري بمرحلة العقود الإدارية بتحديد القانون ثم أعقبت ذلك مرحلة أخرى وضع فيها القضاء الإداري عدة معايير للتمييز سميت بمرحلة التمييز القضائي للعقود الإدارية .
وفي هذا الفصل نبحث هاتين المرحلتين من مراحل تمييز العقود الإدارية .
المبحث الأول
العقود الإدارية بتحديد القانون
Contrats Administratif par Determination delaloi
يلجأ المشرع في بعض الأحيان – وعندما يجد أن تطبيق نظام القانون العام أكثر ملائمة لحل المنازعات المعروضة من القانون الخاص – إلى إضفاء الصفة الإدارية على بعض العقود ويقرر اختصاص القاضي الإداري بالنظر فيما تثيره من منازعات ويطلق على هذه العقود، العقود الإدارية بتحديد القانون. ( )
وقد ظهر هذا التحديد أول مرة في نص المشرع الفرنسي في بداية عهد الثورة الفرنسية عندما وصف بعض العقود بأنها إدارية وخص مجلس الدولة فيما تثيره من منازعات سعياً منها لتطبيق مبدأ الفصل بين السلطات بمنع القضاء العادي من التصدي لأعمال الإدارة، فجعل اختصاص النظر في المنازعات في شأن بعض العقود لمجلس الدولة
وقد تمثلت النصوص التي عقدت الاختصاص فيما تثيره من منازعات لمجلس الأقاليم بموجب قانون (28) بلفوز " السنة الثامنة للثورة". ( )
وكذلك المرسوم الصادر في 11-6-1806 المتعلق بعقود التوريد و القانون الصادر في 17-7-1790 و 26-9-1793 المتعلق بعقود القروض العامة وعقود بيع أملاك الدولة و المرسوم بقانون الصادر في 17-6-1930 عد كل عقد يتضمن شغلا لمال عام عقدا إدارياً في كل الحالات أياً كان شكله أو تسميته وسواء أبرمته الإدارة المركزية أم جهاز لا مركزي إقليمي أو مرفقي أو ملتزم لمرفق عام.
أما في مصر فقد حدد المشرع في المادة العاشرة من القانون (74) لسنة 1972 بشأن مجلس الدولة، العقود الإدارية التي يختص مجلس الدولة بنظر المنازعات الناشئة عنها بالنص "تختص محاكم مجلس الدولة دون غيرها بالفصل في المسائل الآتية : حادي عشر : المنازعات الخاصة بعقود الالتزام أو الأشغال العامة أو التوريد أو بأي عقد اداري آخر."
وقد افرد المشرع العراقي لبعض عقود الادارة تشريعات خاصة مما يدل على كونها عقودا ادارية , ومنها عقود تنفيذ مشاريع التنمية الكبرى المبرمة استنادا الى احكام قانون تنفيذ مشاريع التنمية الكبرى رقم 60 لسنة 1985 عقود بيع وايجار اموال الدولة التي ينظم احكامها القانون رقم 32 لسنة1986.
وقد تعرضت فكرة التحديد القانوني للعقود الإدارية لكثير من النقد لأسباب ترجع إلى طبيعة بعض العقود التي قد لا تتلائم مع التكييف الذي يضفيه عليها المشرع، وفي الحالات التي ينسجم فيها هذا التكييف مع طبيعة العقد ومضمونة فإن تحديد المشرع له يكون كاشفاً فقط.
لذلك نعتقد أن ترك تحديد العقود الإدارية للقضاء لا شك أقدر على كشف الطبيعة القانونية لها، خاصة إذا كان هذا القضاء إدارياً متخصصاً.
المبحث الثاني
التمييز القضائي للعقود الإدارية
إزاء الانتقادات الموجهة لتحديد المشرع للعقود الإدارية و سعي القضاء نحو توسيع اختصاصه ليشمل عقوداً أخرى لسد ما في التشريع من نقص – تكفل القضاء بالبحث في الطبيعة القانونية للعقد وفق معايير محددة من قبل، وفي حالة توفرها يكون العقد إدارياً وبعكسه يبقى العقد ضمن دائرة القانون الخاص.
وقد ظهرت هذه المعايير نتيجة لتطور قضائي طويل انتقلت فيه غلبة كل معيار على الأخر تباعاً .
وسنتكلم فيما يأتي عن المعايير التي اعتمدها القضاء و الفقه الإداريان في تمييز العقود الإدارية.
أولاً :- أن تكون الإدارة طرف في العقد
من المسلم به أن العقد الذي لا تكون الإدارة طرفاً فيه لا يعد عقداً إدارياً، وهذا الشرط تستلزمه المبادئ العامة للقانون الإداري الذي وجد ليحكم نشاط السلطات الإدارية أما العقود التي تبرم بين الأفراد أو أشخاص القانون الخاص الأخرى فأنها تعد من عقود القانون الخاص ولو أبرمت لتحقيق المصلحة العامة .
وأشخاص القانون العام تتمثل بالدولة و الوزارات و المؤسسات الإدارية التابعة لها فضلاً عن الأشخاص العامة المحلية من محافظات ومدن وأحياء يضفي القانون عليها الشخصية المعنوية .
وفي هذا السبيل فقد استقر الرأي على استبعاد عقود القانون الخاص ولو حققت مصلحة عامة إلا في أحوال معينة بالقياس إلى العقود التي تبرم باسم الإدارة ولحسابها، وقد ذهب القضاء الإداري في فرنسا ومصر إلى أن العقود التي تبرمها الإدارة مع أشخاص القانون الخاص تعد إدارية إذا ما ظهر أن أحد المتعاقدين قد تعاقد باسم الإدارة ولحسابها متى توفرت الشروط الأخرى من اتصال العقد بالمرفق العام وتضمينه شروطاً استثنائية .
وقد طبقت محكمة التنازع هذا الاتجاه في حكم له بشأن عقد أبرمته إحدى شركات الاقتصاد المختلط مع منشأة خاصة وتتلخص وقائع هذه القضية في أن شركة الاقتصاد المختلط التي كانت ملتزمة بتسوية وتمهيد لقريتي " ماسي و انتوني " بالتعاقد مع منشأة خاصة لمعاونتها في القيام بهذه الأشغال واعتبرت المحكمة في قرارها العقد إدارياً على أساس أن شركة الاقتصاد المختلط لم تتصرف إلا باسم قريتي " ماسي و انتوني " ولحسابها.( )
وقد سلكت محكمة القضاء الإداري في مصر النهج نفسه في حكمها الصادر في 24-4-1956 الذي جاء فيه" متى كان الثابت أن وزارة التموين بصفتها المشرفة على مرفق التموين بالبلاد تدخلت في أمر سلعة الشاي و اتخذت من الإجراءات وأصدرت من التشريعات ما رأته كفيلاً بتحقيق ما تهدف إليه من توفير سلعة من السلع مع ضمان وصولها إلى المستهلكين بالسعر المحدد وقد استعملت في سبيل ذلك سلطتها في الاستيلاء على هذه السلعة، ووضعت القواعد التي تحكم تنظيم تداولها وتوزيعها وعهدت بذلك " لجنة توزيع الشاي " ثم المعبئين الذين أصبحوا مسؤلين عن توصيل هذه السلعة بعد تعبئتها إلى التجار في مختلف أنحاء البلاد، متى كان ثابت مما تقدم فإن ذلك في حقيقته يتضمن أمراً بتكليف هذه اللجنة بخدمة عامـة ومن ثم تكون الاتفاقـات و العقود التي تعقدهـا اللجنة هـي عقود إدارية". ( )
ولا يمكن اعتبار هذا القرار خروجاً على شرط أن تكون الإدارة أحد طرفي العقد، فإذا تعاقد طرف من العقد باسم الإدارة ولحسابها فإنه يعد نائباً عن الإدارة و تنصرف آثار العقد إلى الجهة الإدارية، ولو أن محكمة القضاء الإداري لم تبين بصورة واضحة هذه الفكرة .
ومن ثم فأن المعيار العضوي لا يكفي لوحده لتمييز العقد الإداري ففي الكثير من الأحيان تكون الإدارة طرف في هذا العقد إلا أنه يعد من عقود القانون الخاص بيد أن شرط وجودها طرفاً في العقد يبقى شرطا ًأساساً لإضفاء الصفة الإدارية عليه إذا ما عزز بالشروط الأخرى التي يستلزمها القضاء كمعيار لتمييز العقد الإداري .
ومع ذلك فقد استقر القضاء الإداري الفرنسي على وصف العقود بين شخصين من أشخاص القانون العام عقودا إدارية ما لم يثبت العكس .
ومن ذلك قرار محكمة التنازع عام 1938 في حكم U.A.P وحكم مجلس الدولة في 8-1-1988 الذي اعتبر فيها الاتفاقات بين حاكم أحد المقاطعات بشأن تحديد توزيع المرافق العامة بين الدول و المحليات من قبيل العقود الإدارية. ( )
ثانياً : اتصال العقد بنشاط مرفق عام .
Le Rattachement Aune activite Deservice Public.
لا يكفي لاعتبار العقد إدارياً أن تكون الإدارة أحد الأطراف إنما يجب البحث فيما إذا كان العقد متعلقاً بمرفق عام على وجه من الوجوه.
وبعد أن كان القضاء في فرنسا ومصر يتبنى المعنى العضوي للمرفق تطورت أحكامه للجمع بين المعنيين – ثم استقر فيما بعد على المعنى الموضوعي – فعرف المرفق العام بأنه النشاط الذي تتولاه الدولة أو الأشخاص العامة الأخرى، مباشرة أو التعهد به إلى آخرين كالأفراد أو الأشخاص المعنوية الخاصة، ولكن تحت أشرافها ومراقبتها وتوجيهاتها وذلك لإشباع حاجات ذات نفع عام تحقيقاً للصالح العام
تطور فكرة المرفق العام :
ظهرت فكرة المرفق العام وتبلورت ابتدءاً من الربع الأخير من القرن التاسع عشر فأصبحت الفكرة الأساسية، التي اعتمدتها أحكام مجلس الدولة الفرنسية ومحكمة التنازع في تقرير معيار الاختصاص القضاء الإداري ومن حكم Rotschild الصادر في 6-9-1855 و Dekeister عام 1861 و Blanco بتاريخ 8-2-1873. وعزز هذا الاتجاه وضع العميد Duguit لأسس نظريته عن المرافق العامة التي كان لها شأن كبير في نظريات القانون الإداري التي باتت تقوم على اعتبار المرفق العام و مقتضيات سيره، المبرر الوحيد لوجود نظام قانوني خارج عن المألوف في قواعد القانون الخاص. ( )
و الدولة في هذا الاتجاه تسعى نحو تحقيق هدف معين هو حسن أداء المرافق العامة، وتستعمل في هذا السبيل وسائل القانون العام، لأن المرفق العام أصبح يمثل الفكرة الأساسية التي يقوم عليها القانون الإداري الذي أصبح يسمى " قانون المرافق العامه" ويتحدد نطاق تطبيقه على أساسها.
وعلى هذا الأساس فأن العقود الإدارية لا تكتسب صفتها هذه إلا إذا اتصلت بنشاط مرفق من المرافق العامة، فأصبحت هذه النظرية معياراً مميزاً للعقد الإداري عن عقود القانون الخاص.
ونتيجة لتطور الحياة الإدارية، و التغيرات الكبيرة التي طرأت في القواعد التي نهضت عليها فكرة المرافق العامة، بتأثير من سياسة الاقتصاد الموجه و المبادئ الاشتراكية وزيادة تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي و الاجتماعي وما رافق ذلك من ظهور المرافق الاقتصادية و الاجتماعية و الصناعية و المرافق ا لمهنية المختلفة، لم تعد نظرية المرافق العامة تحظى بأهميتها السابقة مما عرضها للنقد الشديد.
حتى ذهب البعض إلى القول أن مفهوم المرفق وأهميته بالنسبة للقانون الإداري قد أصبحت ثانوية، في حين أعتبر آخرون ما حصل تطوراً في مفهوم المرفق العام. ( )
ومع ما أصاب هذه النظرية من نقد بقيت أحكام مجلس الدولة الفرنسي و المصري تؤكد ضرورة اتصال العقد بنشاط مرفق عام لإضفاء الصفة الإدارية عليه.
غير أن من الفقهاء من ذهب إلى أن فكرة المرفق العام كمعيار لتمييز العقد الإداري لم تعد كافية أو صالحة للتطبيق. ( )
مما جعل من الضروري أن يحدد هذا المعيار بإضافة عنصر جديد يتمثل باستعمال أساليب القانون العام، بعد أن تبين ما في فكرة المرفق العام من سعة وعدم اقتصار على المرافق الإدارية وشموله للمرافق الاقتصادية و التجارية وتجلى ذلك بظهور المعيار المزدوج الذي يجمع بين فكرتي المرفق العام واستخدم وسائل القانون العام.
ففي عام 1903 أصدر مجلس الدولة الفرنسي حكمه في قضية "Terrir " الذي كان يمثل مع تقريره مفوض الدولة "Romieu " نقطة تحول في قرارات مجلس الدولة ، فقد تعرض مفوض الدولة في تقريره إلى النظرية الإدارية الخاصة بوصفها معياراً لتوزيع الاختصاص بين القضائين المدني و الإداري وورد في تقريره" وتتم هذه التفرقة بين ما اقترح تسميته بالإدارة العامة Gest - Publ و الإدارة الخاصة Gest -Privee أما على أساس طبيعة المرفق محل النظر وأما على أساس التصرف الذي يتعين تقديره فقد يكون المرفق مع أهميته لشخص لعام لا يتعلق إلا بالإدارة دومينه خاص، وفي هذه الحالة يعتبر الشخص العام يتصرف كشخص خاص، كمالك في أوضاع القواعد العامة. ومن جهة أخرى قد يحدث أن الإدارة وأن تصرفت لا كشخص خاص ولكن كشخص عام لمصلحة مرفق عام بالمعنى الحقيقي لا تتمسك بالإفادة من مركزها كشخص عام وتضع نفسها باختيارها في نفس أوضاع الفرد سواء بإبرام أحد عقود القواعد العامة ذي طابع حدده التقنيين المدني بوضوح " استئجار عقار مثلا لتقر فيه مكاتب إدارة ما" لا يفترض بذاته تطبيق أية قاعدة خاصة بتسيير المرافق العامة". ( )
ومن هذا التاريخ اتجهت آراء الفقه في الأغلب إلى رأي مفاده أن الإدارة إذا ما اتبعت أساليب القانون العام فإن عقودها تنطبع بالطابع الإداري أما إذا كانت أساليبها متشابهه لأساليب الأفراد في القانون الخاص فتكون عقودها مدنية أو تجارية.
وأخذت قرارات مجلس الدولة الفرنسية تتوالى مؤكدة الاتجاه ذاته ومن ذلك حكم المجلس في 31-7-1912 في قضية شركة الجرانيت ورد" ومن حيث أن العقد المبرم بين المدينة و الشركة خلا من أي أشغال تنفذها الشركة وكان محله الوحيد التوريد عند التسليم حسب قواعد وشروط العقود المبرمة بين الأفراد، وإنه بهذا يثير الطلب منازعة لا يختص القضاء الإداري بنظرها". ( )
وعلى هذا الأساس برزت فكرة العيار المزدوج في فرنسا التي تعد عقدا إدارياً إذا كانت الإدارة طرفاً فيه واتصل العقد بمرفق عام واتجهت نية الإدارة إلا الأخذ بأسلوب القانون العام.
ومنذ ذلك الوقت برز مفهوم الشروط الإستثنائية غير المألوفة التي تخرج عن المألوف في قواعد القانون المدني معياراً رئيسياً ينهض إلى جانب معيار المرفق العام للتعبير عن نية الإدارة في أتباع أسلوب القانون العام.
فلا يكفي وفق هذه النظرية اتصال العقد بمرفق عام لإضفاء الصفة الإدارية على العقد مثلما لا يكفي تضمن العقد لشروط استثنائية لاعتباره عقداً إدارياً. ( )
وفي ذلك قضت المحكمة الإدارية العليا في مصر أن علاقة العقد بالمرفق العام إذا كانت ضرورية لكي يصبح العقد إدارياً ليس كافية لمنحة تلك الصفة، اعتبار بأن قواعد القانون العام ليست علاقة حتمية بالمرفق إذ أنه مع اتصال العقد بالمرفق العام فإن الإدارة قد لا تلجأ في أبرامة إلى أسلوب القانون العام لما تراه من مصلحتها في العدول عن ذلك إلى أسلوب القانون الخاص. ( )
وبالرغم من التأييد الكبير الذي حظيت به فكرة المعيار المزدوج حاول أنصار نظرية المرفق العام إحياء نظريتهم و الاكتفاء بها معياراً وحيداً لتمييز العقد الإداري واستبعاد وسائل القانون العام ممثلة في الشروط الإستثنائية عن طريق أساليب عدة لعل من أهمها نظرية اشتراك المتعاقد في تسيير المرفق العام.
نظرية اشتراك المتعاقد في تسيير المرفق العام:
بتاريخ 20-4-1956 إصدار مجلس الدولة الفرنسي قرار مهما عد إحياء لنظرية المرفق العام، ينحصر مضمونة على أن العقد الذي يعهد إلى المتعاقد بتنفيذ المرفق العام ذاته يعد إدارياً دون البحث في صفة العقد الإداري أو تضمينه شروطاً غير مألوفة .
وتتلخص وقائع هذا الحكم الذي سمي بحكم الزوجين بيرتان"Epoux Bertin إنه عندما انتهت الحرب العالمية الثانية وضع الرعاية الروس الموجودين في فرنسا في مراكز الإيواء تمهيداً إلى ترحيلهم إلى بلادهم وفي تاريخ 24-11-1944 أبرم عقد شفوي بين رئيس أحد هذه المراكز والزوجان " بيرتان " يلتزم هذان الزوجان بمقتضاه بتغذية اللاجئين مقابل مبلغ محدد من المال عن كل فرد في اليوم .
أدعى الزوجان عام 1945 أن المقابل المستحق لها قد زاد مقداره نتيجة لزيادة كميات الأغذية التي قدمت للاجئين بأمر المركز وطلبا صرف المقابل لهذه الزيادة ، إلا أن الوزارة المشرفة على المعسكرات رفضت الدفع . فأقام الزوجان الدعوى أمام مجلس الدولة .
دفعت الوزارة بعدم اختصاص مجلس الدولة بنظر النزاع مستنده أن العقد لم يتضمن شروطاً استثنائية ولذلك فهو لا يعد عقداً إدارياً .
إلا أن مجلس الدولة رفض هذا الدفع وحكم " إن محل هذا العقد أن يعهد في هذا الصدد إلى أصحاب الشأن بتنفيذ المرفق العام ذاته lexecution memme du service public المكلف آنذاك بكفالة إعادة اللاجئين من جنسيات أجنبية الموجودين في إقليم فرنسا إلى أوطانهم وإن هذا الظرف يكفي بذاته في دمغ العقد محل البحث بصفة العقد الإداري ؛ وأنه يترتب على ذلك دون حاجة لبحث ما إذا كان العقد المذكور يتضمن شروطاً غير مألوفة في القواعد العامة." ( )
وبعد هذا الحكم بعشرين يوماً أصدر مجلس الدولة قراراً آخر يؤكد هذا المبدأ في قضية Gondrand .
ودرجت محكمة التنازع على ذلك ففي قضية Houend في 12-6-1978 وفي قرارين اعتبرت المحكمة عمل موظفه في مدرسة للفتيات تقوم بمراقبة نوم الفتيات " النهوض والنوم " اشتراكاً بصورة مباشرة في تنفيذ خدمة عامة تخص التعليم وكذلك اعتبرت عمل زوجها وهو عامل مكلف بصيانة بعض الأجهزة وتعليم الطلاب استعمالها .
وفي المجال نفسه اطردت أحكام القضاء الإداري الفرنسي على اعتبار الفنانين الذين يعملون في المسرح البلدي كالمغنيين أو الراقصات أو العازفين ، مشتركين في تنفيذ المرفق العام وهو ما قضت به محكمة التنازع في 17-1-1979 في قضية : Dme le Cachey et autres . ( (
وقد وجد هذا الاتجاه تطبيقا له في قضاء ً محكمة القضاء الإداري المصري فورد في قرار لها في 27-1-1963 " قاعدة ضرورة اطراد سير المرافق العامة تتطلب أن تطبق على الأشخاص الذين يساهمون في تسيير قواعد معينة لا يجب تعليق تطبيقها على وجود أو تخلف شروط غير مألوفة في العقد المبرم بين الشخص المعنوي العام وبين الأفراد المعاونين له ، خاصة إذا توافرت للمرفق أهمية خاصة أو بلغت معاونة الفرد المتعاقد مع الإدارة درجة كبيرة فإن معيار العقد الإداري يكون حينئذ معياراً منفرداً قائما بذاته لا ضرورة ً لبحث شروطه من ناحية ما إذا كانت تتضمن استثناءات غير مألوفة في القانون الخاص " . ( )
وفي الاتجاه نفسه تقريباً برزت أحكام تعد اشتراك المتعاقد في تيسير المرفق بصورة دائمة particiption du Concontrant a lexecution du service public. كافياً لإضفاء الصفة الإدارية على العقد دون الحاجة للبحث عما يحتويه من شروط استثنائية غير مألوفة . وقد أيد جانب في الفقه هذا الاتجاه فذهب pequignot إلى القول إن اشتراك المتعاقد في تسيير المرفق بصفة دائمة يجعل العقد إدارياً في جميع الأحوال دون اللجوء إلى البحث فيما إذا كان العقد يحتوي على شروط غير مألوفة أم لا ، وقد طبق "بكينو" هذه الفكرة في عقود إجارة الأشخاص والخدمات وعقود الامتياز . ( )
وعلى هذا فأن العقد الذي يعهد إلى المتعاقد بصورة مباشرة بتنفيذ المرفق نفسه أو يتضمن اشتراك المتعاقد في تسيير المرفق بصفة دائمة يعد إدارياً دون الحاجة إلى أي شروط أخرى .
وقد عد أنصار فكرة المرفق ذاته إن أحكام مجلس الدولة المؤيدة لاتجاههم قد أدت إلى استبعاد الرأي القائل بصلاحية الشروط غير المألوفة لتكون معياراً وحيداً لتمييز العقد الإداري ، وإن هذه الفكرة أعادت الأهمية لنظرية المرفق العام .
فذهب Lamarque إلى إن المعيار المأخوذ من موضوع العقد ـ ويقصد معيار تنفيذ المرفق ذاته ـ يبدو أكثر إيجابية . وإن اعتبار العقد إدارياً إذا احتوى على شروط غير مألوفة لا يضفي إلى العقد إلا عنصراً إضافياً ".( )
في حين ذهب prosper إلى القول أن معيار العقد الإداري أصبح بصدور حكم "بيرتان" في أزمة بددت الاستقرار والـتوازن الذي استمر لفترة طويلة في ظل المعيار المزدوج.( )
كما أيد هذا القضاء جانب من الفقهاء في مصر ومنهم الدكتور عبد الفتاح حسن الذي قال : " لذلك لا غرو أن يكون حكم مجلس الدولة الذي صدر في 20-4-1956 م- يقصد حكم بيرتان – من أحكام المبادئ أعاد الحياة لقضاء قديم ، وإعادة شاباً يعمل في مجالات أكثر أتساعاً.." ( )
إلا أن ذلك لا يعني إجماع من القضاء والفقه حول اعتماد هذا المبدأ معياراً كافياً لتميز العقد الإداري فما زالت نظرية الشروط الإستثنائية تتمتع بأهمية كبيرة في هذا المجال وتحظى بتأييد جانب كبير من الفقهاء .
ثالثاً : إتباع أسلوب القانون العام :
Lemploi du procede de Droit public
بعد تراجع نظرية المرفق العام أساساً وحيداً للقانون الإداري ومعياراً لتمييز العقد الإداري دعا طائفة من الفقهاء إلى ضرورة إبراز دور السلطة العامة في تمييز العقد الإداري ، من خلال البحث فيما يتضمنه العقد من شروط استثنائية خارجة عن القانون الخاص . تكشف عن نية المتعاقدين في إتباع أسلوب القانون العام ، وإخضاع العقد لقواعده وأحكامه .( )
وقد برز هذا الاتجاه أولاً في حكم مجلس الدولة الفرنسي في قضية Terrier عام 1903 ثم ما لبث أن توالت أحكام مجلس الدولة في الاتجاه نفسه فصدر في عام 1912 م حكم المجلس في قضية " شركة الجرانيت " إذ وضع مفوض الدولة Leon blum مبدأ عاماً يتعلق بمعيار التمييز بين العقود الإدارية وعقود القانون الخاص ، فبين في تقريره : " إذا تعلق الأمر بعقد يجب البحث ليس عن الغاية من إبرامه ، ولكن ما هو العقد بذات طبيعته ، ولا يكفي لكي يختص القاضي الإداري وجوب استعمال التوريد وهو محل العقد عقب تمامه لمرفق عام ؛ فيجب أن يكون هذا العقد بذاته وبطبيعته الخاصة أما من العقود التي لا يستطيع أن يعقدها ألا شخص عام أو أن يكون بشكله وتكوينه عقداً إدارياً .. فما يجب بحثه هو طبيعة العقد ذاته استقلالا عن الشخص الذي عقده والغاية التي أبرم من أجلـها " . ( )
وعلى ذلك لم يعد اتصال العقد بالمرفق العام كافياً لكي يكتسب الصفة الإدارية ، أنما يلزم أن تكشف الإدارة عن نيتها في اختيار أسلوب القانون العام ، والوسيلة في ذلك هي تضمن العقد شروطاً استثنائية غير مألوفة في القانون الخاص .
ولأهمية هذه الشروط ،أصبحت علامة مميزة يمكن الاسترشاد بها في تقرير الطبيعة الإدارية للعقود التي تبرمها الإدارة بصفتها سلطة عامة تتمتع بإمتيازات لا يتمتع بها الفرد العادي ، وتخضع العقد لنظام قانوني هو نظام القانون العام .
ولا شك أن فكرة الشروط الإستثنائية تتطلب الكثير من البحث لما ثار حولها من جدل في فقه القانون الإداري وأحكام القضاء التي لم توضح بصورة قاطعة مضمون هذه الشروط .
يكتب الأستاذ pequignot عن فكرة الشروط الإستثنائية فيقول :" أنها تبدو صعبة التحديد في أحكام القضاء الإداري .. وأنه من الصعب أن نجد في أحكام القضاء الإداري تحديداً للشروط التي يعدها هذا القضاء غير عادية" . ( )
في حين عد Vedel معيار الشروط الإستثنائية المعيار الحقيقي للعقد الإداري وهو الوحيد الذي يكشف عن إرادة المتعاقدين في إتباع أسلوب القانون العام .
إذا كتب في هذا الصدد " الشرط الاستثنائي هو المعيار الوحيد الكافي لإضفاء الصفة الإدارية على العقد فمضمون العقد هو الذي يبين الشروط الخارجة عن القانون الخاص ، ونية الإدارة في تمسكها بمباشرة حقوق السلطة العامة ، ومعرفة التصرف الذي تتخذه الإدارة في ظل نظام السلطة العامة لا يتحقق إلا من طريق واحد هو الاختيار الذي قررته الإدارة بموافقة المتعاقد وذلك ما يكشف عن وجود الشروط الإستثنائية أو غيابها".( )
تقدير نظرية الشروط الإستثنائية :
لم تسلم نظرية الشروط الإستثنائية معياراً وحيداً للعقد الإداري ، من النقد وفي هذا المجال ذهب بعض الفقهاء إلى القول أن معيار الشرط غير المألوف أثار صعوبات كبيرة ساعد عليها القضاء الإداري في عجزه عن تعريف الشرط غير المألوف واتساع مفهومه ليشمل أنواع عديدة من الشروط من قبيل الشروط المانحة للإدارة إمتيازات في مواجهة المتعاقد معها كحق الإدارة بالرقابة والتوجيه ، فهي وان كانت من الشروط الغير المألوفة فأنها لا تعد مجهولة في عقود الأفراد العاديين وهي ليست حكراً على عقود القانون العام . إذ من الممكن أن تتضمنها عقود الإذعان والعقود المبرمة بين الشركات متفاوتة القدرة والاتساع مما يتيح لأحد الأطراف أن يملي شروط أحادية الجانب من حيث الأسعار وظروف الدفع .
ومن هؤلاء الأساتذة Lamarque الذي يضيف بالقول " أن الدور الذي نسب إلى الشرط غير المألوف دوراً مصطنعاً مجرد من كل قيمة منطقية جوهرية .( )
بيد أن هذه الانتقادات لم تقض نهائياً على معيار الشروط غير المألوفة أنما جعل لها دوراً ثانوياً فهو يتمتع بأهمية ، خاصة عندما لا يكون العقد إدارياً في مضمونه باتصاله بالمرفق العام ، إذ يتم البحث عن الشروط غير المألوفة في حالة عدم القدرة على حسم ما إذا كان العقد يتضمن مشاركة في تنفيذ المرفق ذاته وهو ما عرف بالمعيار المتناوب .
وبالاتجاه نفسه يذهب Chapus إلى أنه يجب أن لا يعتقد إن معيار البند أو الشروط المخالفة دائماً معيار مساعد ، فالمعيار المأخوذ من الموضوع هو دائما معيارً مبدأ ، ففي كثير من الحالات يفضل القاضي استخدام معيار الشرط غير المألوف ، فهذا يمكن أن يكون أكثر تناسباً من غيره ويجب أن لا ننسى أن معيار الشرط غير المألوف يستطيع هو بمفرده إعطاء صفة إدارية لكل عقد .( )
إلا أن المعيار المتناوب هو الآخر لم يسلم من النقد إذا قاد تطبيقه في القضاء الإداري الفرنسي إلى نتائج غير مقبولة في بعض الأحيان ، من ذلك قرار محكمة التنازع في 25-11-1963 في قضية Vve Mazerand "مدام مازران" وهي مستخدمة في مدرسة عام 1942 وحتى عام 1946 من أجل تنظيف الأبنية ومسؤولة عن الإنارة وصيانة آلات التدفئة ثم قامت بعد ذلك بتنظيم حضانة للأطفال في المدرسة ومنذ عام 1946 إلى 1952 كان عليها أن تخدم في هذه الحضانة فحكمت محكمة التنازع أن العقد الذي يربطها بالبلدة هو من اختصاص القانون الخاص بين 1942 و 1946 ولكنه إداري من 1946 إلى 1952 .
مما توجب على السيدة "مازران" أن تقيم دعويين واحدة أمام المحاكم العادية والأخرى أمام القضاء الإداري . وهذا قضاء غريب تكرر في أحكام أخرى منها قرار محكمة التنازع في 26-11-1990 في قضية Mlle Salliege استخدمت فيها السيدة من قبل المستشفى ابتداء لمساعدة المرضـى أثناء تنقلهـم ( مشاركة مباشرة في الخدمة الطبية ) وكذلك في أعمال غسل الملابس ( غياب المشاركة المباشرة ) وقد تم تكليفها بهذه الأعمال الأخيرة بعد ذلك فأصبحت شخص من أشخاص القانون الخاص ، وبما أنه قد تم تسريحها من الخدمة وهي تملك الصفة الأخيرة فإن النزاع يعد من اختصاص المحاكم العادية .( )
إزاء ذلك لا نعتقد بصلاحية المعيار المتناوب ليكون معياراً كافياً لتمييز العقد الإداري ولا نرى مانعاً من أن يشتمل معيار التمييز المبادئ الثلاثة التي توصل إليها القضاء الإداري في سنوات تطوره التي استغرقت عقوداً من الزمن ، وهذا المعيار التخييري يوكل به قاضي الموضوع إذ يتفحص العقد ويطبق كل مبدأ من هذه المبادئ فإذا ما تحقق من توافر أحدها فيه كان العقد إدارياً دون الحاجة للبحث في توافرها معاً ، وإن هذه المبادئ متساوية في أهميتها فليس هناك مبدأ رئيسي وآخر مساعد وهذه المبادئ هي :
المبدأ الأول : الاشتراك المباشر في تنفيذ المرفق العام ذاته. ويقوم هذا المبدأ على أساس اعتبار العقد الذي يتضمن تنفيذ المتعاقد للمرفق العام ذاته عقداً إدارياً دون الحاجة لوجود الشروط غير المألوفة. وقد ظهر هذا المعيار بحكم بيرتان 1956 وحقق نجاحاً كبيراً من خلال شموله أغلب الموظفين في الإدارات العامة واعتبار عقود توظيفهم إدارية .
وفي هذا السبيل عد مجلس الدولة الفرنسي العديد من العقود إدارية لأن موضوعها هو تنفيذ مرفق عام ففي قرار مجلس الدولة في قضية Soc-Codiam في 8-6-1994 عد العقد إدارياً عندما أبرمته مستشفى مع شركة أجهزة التلفاز لتأجير أجهزة إلى المرضى. باعتبار أن خدمة الاستشفاء تعني بالإضافة للعناية الطبية تحسين ظروف الإقامة للمرضى كذلك عدت محكمة التنازع في قرار حديث لها في 16-1-1995 في قضية Cie nat,du Rhoc ,EDF العقد إدارياً لأنه يسمح بأن تستخدم شركة الكهرباء الفرنسية الطاقة المنتجة من الشركة الوطنية لمنطقة (الرون) باعتبار أن هذا العقد يتضمن تنسيقاً لوظائف الشركتين المتعلقة بالمرفق العام. ( )
وهذا المبدأ في الحقيقة يتسم بسهولة التطبيق إذ تكفي الإشارة إلى طبيعة المهمة التي كان يمارسها المتعاقد مع الإدارة لمعرفة العقد فيما إذا كان إدارياً من عدمه، بالإضافة إلى أنه عد أغلب عقود التوظيف في الإدارات العامة عقوداً إدارية ومن ذلك عقود الأطباء والمهندسين والأساتذة والعاملين في المسارح العامة .
غير أنه مع حسنة شموله جميع الموظفين بمظلة القانون العام فإن القول به سيؤدي في النهاية إلى عدم الحاجة إلى البحث في مدى ارتباط مبدأ المشاركة في تنفيذ المرفق في العقد الإداري لأن جل عقود الوظيفة العامة ستعد إدارية من حيث الموضوع حتماً .
المبدأ الثاني : الشروط غير المألوفة : إن عدم تنفيذ المتعاقد للمرفق ذاته لا يجعل من العقد من عقود القانون الخاص حتماً ، إذ يتوجب على القاضي أن يبحث فيما إذا كان العقد محتوياً على شروط غير مألوفة من عدمه .
ففي هذه الحالة يستعيد مبدأ الشروط الغير مألوفة، أهميته يذهب الأستاذ Chapus إلى القول أن كل عقد يتم الإفصاح عنه يعود للقانون الخاص ولا يعترف به كعقد إلا تبعاً للتأكد بأنه ليس إدارياً لا في موضوعه ولا من ناحية شروطه .( )
المبدأ الثالث : العقود الإدارية تبعاً لأنظمتها : منذ صدور حكم مجلس الدولة الفرنسي في قضية Riviere du Sant عام 1973 برز الاتجاه الذي يعد العقد إدارياً ليس من خلال ما يحويه من شروط غير مألوفة ولا من خلال تنفيذ المتعاقد للمرفق العام ذاته وإنما لقيام العقد على نظام قانوني غير مألوف، وقد أثار هذا المبدأ عند ظهوره بعض الارتباك بخروجه عن الاستقرار النسبي في ظل المعيار المتناوب .
ونعتقد إن هذا المبدأ يمثل قاعدة ثالثة يمكن الاعتماد عليها في وضع حل لمعضلة التمييز بين العقد الإداري وعقود القانون الخاص ويؤكد ذلك اعتماده من القضاء الإداري الفرنسي في الكثير من الأحكام .
ومع ذلك وباستثناء بعض قرارات محكمة التنازع التي لم تعد العقود خاضعة لنظام قانوني استثنائي مثال ذلك قرارها في 11-10-1993 في قضية Soc-Central siderurgiqe de richemont فأنه لا يمكننا أن ننفي كون أن مبدأ النظام القانوني غير المألوف قد أصبح ركناً أو مبدأ مهماً في تمييز العقد الإداري في الوقت الحاضر .
المبحث الثالث
التعريف بأهم أنواع العقود الإدارية
تبرم الإدارة أنواعاً مختلفة من العقود الإدارية، منها عقود نظمها المشرع بأحكام خاصة ونص عليها في القانون المدني ومنها ما ورد عليه النص في الشروط العامة الخاصة بابرام العقود الإدارية، ومنها ما ترك تحديده للقضاء الإداري .
وفي هذا المبحث سنتناول اربعة من أهم العقود الإدارية التي أشارت إليها اغلب التشريعات العربيه, وهي:
1- عقد الالتزام أو الامتياز .
2- عقد الأشغال العامة .
3- عقد التوريد .
4- عقد البوت.
المطلب الاول
عقد الالتزام أو الامتياز
يعد عقد الالتزام من أهم العقود الإدارية، لأنه يمنح فرد أو شركة الحق بإدارة واستغلال مرفق من المرافق العامة .
عرفته محكمة القضاء الإداري المصرية بقولها ".. إن التزام المرافق العامة ليس إلا عقداً إدارياً يتعهد أحد الأفراد أو الشركات بمقتضاه بالقيام على نفقته وتحت مسئوليته المالية بتكليف من الدولة أو إحدى وحداتها الإدارية، وطبقاً للشروط التي توضع لها، بأداء خدمة عامة للجمهور، وذلك مقابل التصريح له باستغلال المشروع لمدة محددة من الزمن واستيلائه على الأرباح ". ( )
وقد ثار بشأن طبيعة عقد الالتزام خلاف فقهي كبير، إذ ذهب فريق من الفقهاء " الألمان" إلى القول أنه عمل من جانب واحد هو الإدارة. وعلى ذلك فأن آثاره لا تنشأ عن عقد وإنما عن أمر انفرادي تصدر السلطة بإرادتها المنفردة، وتملك تعديله أو إلغائه.
ولم يصادف هذا الرأي القبول لأنه ينفي دور الملتزم في تحديد شروط الالتزام ودور إرادته في إبرامه . ( )
وانقسم الفقه الفرنسي إلى اتجاهين ذهب الأول نحو اعتبار عقد الالتزام من عقود القانون الخاص ، متجاهلاً خصائصه المميزة من حيث منحه الملتزم سلطات من طبيعة خاصة من قبيل سلطته في فرض أعباء مالية على المنتفعين بالمرفق وسلطته في شغل الدومين العام وما إلى ذلك من إمتيازات أخرى ويوفرها له نظام القانون العام .
أم الاتجاه الثاني ويتزعمه الفقيه Duguit فيعتبر الالتزام عملاً قانويناً مركباً يشتمل على نوعين من النصوص الأول منها يتعلق بتنظيم المرفق العام وبسيره، وتملك الإدارة تعديل هذه النصوص وفقاً لحاجة المرفق . أما النوع الثاني من النصوص فيسمى بالنصوص أو الشروط التعاقدية التي تحكمها قاعدة " العقد شريعة المتعاقدين " ومنها ما يتعلق بتحديد مدة الالتزام والإلتزامات المالية بين المتعاقدين ولا تتعدى ذلك لتشمل أسلوب الخدمات للمنتفعين .
وقد لاقى هذا الرأي ترحيباً في القضاء الإداري في فرنسا ومصر إذ أن المسلم به فقها وقضاء إن شروط عقد التزام المرفق العام تنقسم إلى نوعين : شروط لائحية وشروط تعاقدية . الشروط اللائحية فقط هي التي يملك مانح الالتزام تعديلها بإرادته المنفردة في أي وقت وفقاً لمقتضيات المصلحة العامة، دون أن يتوقف ذلك على قبول الملتزم. والمسلم به إن التعريفة أو خطوط السير وما يتعلق بهما، من الشروط اللائحية القابلة للتعديل بإرادة مانح الالتزام المنفردة.
وقد سعى المشرع العراقي نحو تنظيم أحكام عقد التزام المرافق العامة ليكفل حسن سير المرفق محل الالتزام والمساواة في الانتفاع من خدماته في المواد (891- 899 ) من القانون المدني العراقي .
وتمارس الإدارة في مواجهة الملتزم سلطة الرقابة والإشراف على ممارسة عمله وفقاً لشروط العقد والقواعد الأساسية لسير المرافق العامة .
على أن لا تصل سلطة الإدارة في إصدار قراراتها بمناسبة سلطة الرقابة حدا يغير من طبيعة الالتزام وتعديل جوهره أو أن تحل محل الملتزم في إدارة المرفق وإلا خرج عقد الالتزام عن مضمونه، وتغير استغلال المرفق إلى الإدارة المباشرة .
التصرفات القانونية التي تجريها لإدارة وتقصد بها إلى إحداث الآراء القانونية , أما أن تتمثل بالتصرفات التي تقوم بها الإدارة من جانب واحد وبإرادتها المنفردة وتشمل القرارات والأوامر الإدارية التي أوضحناها سابقاً .
وأما أن تتمثل بالأعمال القانونية الصادرة عن الإدارة بالاشتراك مع بعض الأفراد بحيث تتوافق الإدارتان وتتجهان نحو إحداث أثر قانوني معين و لجأ الإدارة إلى إتباع هذا الأسلوب لتحقيق هدفها في إشباع الحاجات العامة , وفق ما يمكن تسميته بعقود الإدارة .
والعقود التي تبرمها الإدارة لا تخضع لنظام قانوني واحد ، فهي على نوعين: الأول عقود الإدارة التي تخضع للقانون الخاص والتي تماثل العقود التي يبرمها الأفراد في نطاق القانون الخاص ، والنوع الثاني هي العقود الإدارية التي تخضع للقانون العام والتي تبرمها الإدارة باعتبارها سلطة عامة تستهدف تنظيم مرفق عام أو تشغيله .
تمت تقسيم هذا الباب إلى خمسة فصول كما يلي :
الفصل الأول: ظهور فكرة العقود الإدارية.
الفصل الثاني: معيار تمييز العقد الإداري .
الفصل الثالث: إبرام العقود الإدارية .
الفصل الرابع: الحقوق والإلتزامات الناشئة عن العقد الإداري .
الفصل الخامس: نهاية العقود الإدارية .
الفصل الأول
ظهور فكرة العقود الإدارية
لم تظهر فكرة العقود الإدارية ألا في تاريخ متأخر لا يتجاوز مطلع القرن العشرين , وقد مر تحديد مفهوم نظرية العقود الإدارية وأسسها العامة بتطور استغرق حقبة طويلة من الزمن .
وفي هذا الفصل نتناول بالدراسة نشأة نظرية العقود الإدارية , ثم نبحث في استقلال هذه النظرية والتعريف بالعقد الإداري .
المبحث الأول
نشأة العقود الإدارية
حظيت مشكلة تحديد نشاط السلطة العامة باهتمام كبير من رجال القانون والإدارة، واختلف هذا الاهتمام تبعاً للأفكار السياسية التي يؤمن بها كل منهم .
ولعل أبرز مذهبين كان لهما التأثير في هذا المجال هما المذهب الفردي الحر والمذهب التدخلي المعاصر ، حيث وضع كل منهما أسلوباً محدداً لدور الدولة ووظيفتها في مختلف المجالات وفقاً للفلسفة السياسية التي يؤمن بها .
وكان لانتصار مفهوم الدولة التدخلية وتوسيع مجال نشاط السلطة العامة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ، وانتشار المرافق العامة المهنية والاقتصادية الفضل في خلق مبادئ قانونية جديدة هي مبادئ القانون الإداري تتميز عن قواعد القانون الخاص وتتماشى مع طبيعة نشاط الإدارة وهدفها ولا تغفل في الوقت نفسه حقوق الأفراد وحرياتهم ، وساهم في ذلك بشكل كبير مجلس الدولة الفرنسي الذي يعود له الفضل في تأسيس العديد من نظريات القانون الإداري ومنها نظرية العقود الإدارية .
وقد طبقت مصر أحكام العقود الإدارية عقب إنشاء مجلس الدولة في عام 1964 واختص مجلس الدولة بنظر منازعات العقود الإدارية بصدور القانون رقم 9 لسنة 1949.
اما في العراق فقد بقيت مسألة العقود الادارية يكتنفها الغموض وعدم الوضوح على الرغم من الغاء المحاكم الادارية وتعديل قانون مجلس شورى الدولة بالقانون رقم 106 لسنة 1989 الذي تم به انشاء محكمة القضاء الاداري في العراق فقد استبعد القانون المذكور منازعات العقود الادارية من اختصاص المحكمة .
ومن ثم بقي القضاء العادي صاحب الولاية في نظر المنازعات المتعلقة بالعقود الادارية اذ تنص المادة 29 من قانون المرافعات المدنية رقم 83 لسنة 1969 ( تسري ولاية المحاكم المدنية على جميع الاشخاص الطبيعية والمعنوية بما في ذلك الحكومة وتختص بالفصل في كافة المنازعات الا ما استثني بنص خاص ).
الا ان ذلك لم يمنع القضاء العراقي من مواكبة تطور نظريات القانون الاداري في فرنسا ومصر والتمييز بين العقود الادارية والعقود المدنية والاعتراف للادارة بإمتيازات غير مألوفة .
جاء في قرار محكمة التمييز عدد 1584 في24- 1 - 1966 (لاجناح على المحاكم اذا ماطرح عليها نزاع حول هذه العقود ان تمارس في قضائها مهمة القضاء الاداري وما درج علية من حلول للتوفيق بين المصالح العامة وبين حماية الافراد وحقوقهم لان ولاية المحاكم تتسع لجميع المنازعات الا ما استثني بنص خاص ).
المبحث الثاني
استقلال نظرية العقود الإدارية
نشأ الكثير من الجدل حول الطبيعة القانونية للعقود التي تبرمها الدولة مع الغير ، وقد دار هذا النقاش بين قدسية الإلتزامات التعاقدية وبين إمتيازات الدولة التشريعية والإدارية التي تمارس من خلال أجهزتها لتحقيق المصلحة العامة .( )
ولا شك أن العقد الإداري ناتج عن توافق ارادتين على إنشاء الالتزام شأنه شأن عقود القانون الخاص وفي هذا المعنى يتضح أن العناصر الأساسية في كلا العقدين واحدة، فيجب أن يتوافر الرضا ويجب أن يكون صحيحاً وصادراً من الجهة الإدارية المختصة ، وسليماً من العيوب.
ألا فيما يتعلق بالأهلية ، فأحكامها في العقد الإداري ليست كما هي عليه في العقد المدني لاختلاف أهلية الإدارة عن أهلية الشخص الطبيعي في الحكم .( )
كما يتميز العقد الإداري في أن الإدارة تكون دائماً طرفاً فيه ، وأن تكوينه وأن كان يتم بتوافق إرادتين لا يكون بمجرد إفصاح فرد معين من أعضاء السلطة الإدارية عن أرادته و إنما يتكون من عدة أعمال قانونية ، يشترك فيها أكثر من عضو من أعضاء السلطة الإدارية ، لأن الاختصاصات الإدارية لا ترتكز في يد واحدة. ( )
كذلك يجب أن يتوافر السبب في العقود الإدارية مثلما هو الحال بالنسبة لعقود القانون الخاص مع ضرورة أن يكون الباعث الدافع في العقود الإدارية هو تحقيق المصلحة العامة .
وكما هو الشأن في عقود القانون الخاص يجب أن يكون السبب موجوداً ومشروعاً وألا عد العقد باطلاً . من جهة أخرى يشترط في محل العقد الإداري أن يكون محدداً أو قابلاً للتحديد ومشروعاً . ( )
والمحل يتمثل في الحقوق والإلتزامات التي ينشئها العقد على طرفيه كما هو الحال في عقود القانون الخاص مع ضرورة الذكر بأن محل العقد الإداري يتميز بمرونة خاصة توفرها الإمتيازات الممنوحة لجهة الإدارة والتي تخولها تعديل إلتزامات المتعاقدين في بعض الأحيان تحقيقاً للمصلحة العامة .
وبسبب التشابه الكبير بين الأركان في هذين العقدين ، لم يتفق الشراح على موقف واحد إزاء استقلال نظرية العقد الإداري عن النظرية التقليدية لعقود القانون الخاص ، وقد برز اتجاهان :
الاتجاه الأول :
ذهب الأستاذ Dugit إلى أنه لا يوجد فرق أساسي بين العقد المدني والعقد الإداري لأنهما متفقان في عناصرهما الجوهرية فالعقد الإداري يتمتع دائماً بالخصائص نفسها والآثار عينها .
وعلى هذا الأساس لا يوجد عقد إداري متميز عن العقود التي تبرم بين الأفراد ولكن يوجد اختلاف في الاختصاص القضائي فقط إذ يرفع النزاع أمام القضاء الإداري لأن الإدارة تبرز في العقد بصفتها سلطة عامة وبقصد تسيير مرفق عام وإدارته . والفرق بين هذه العقود والعقود المدنية يشبه تماما الفرق بين العقد المدني والعقود التجارية التي تخضع للمحاكم التـجارية لاستهدفها أغراضـا تجارية . ( )
الاتجاه الثاني:
يمثل هذا الاتجاه الذي يختلف عن السابق طائفـة من الفقـهاء منهم الأستاذ . Jeze ( ) و de laubadere .( ) اللذان ذهبا إلى أن النظام القضائي في القانون الإداري نظام خاص مستقل عن نظام القانون الخاص لاختلاف منابعهما ومصادرهما القانونية الأساسية ، كما أن العقود الإدارية تختلف هي أيضاً عن عقود القانون الخاص من حيث نظام منازعاتها والقواعد الأساسية التي تختلف بصورة عامة عن قواعد القانون المدني وتناقضها أحياناً ، وهذه الخصوصية تمليها متطلبات المصلحة العامة التي تهدف العقود الإدارية إلى تحقيقها .
والحق أنه لا يمكننا التسليم بما ذهب إليه الاتجاه الأول وأن كان ينطوي على حقيقة مفادها وجود نقاط توافق كبيرة بين العقود الإدارية وعقود القانون الخاص ، ألا أن هذا التوافق لا ينفي وجود نظام قانوني متميز يخضع له العقد الإداري ، ينبذ الفكرة القائلة بوحدة العقد سواء إبرام بين الأفراد أم بينهم وبين الدولة.
ففي الوقت الذي تكون فيه المصالح متكافئة والمتعاقدان متساويين في عقود القانون الخاص نجد أن المصلحة العامة في ظل عقود القانون العام تتميز بالأولوية إذ تقدم المصلحة العامة للإدارة على المصلحة الخاصة للأفراد .( )
والإدارة بهذه الحال وبوصفها قائمة على تحقيق المصلحة العامة تتمتع بحقوق و إمتيازات لا يتمتع بها المتعاقد معها تخولها حق مراقبة تنفيذ العقد وتوجيه المتعاقد نحو الأسلوب الأصلح في التنفيذ ، وحق تعديل شروط العقد بإرادتها المنفردة ، دون أن يستطيع المتعاقد أن يتمسك بقاعدة أن العقد شريعة المتعاقدين يضاف إلى ذلك بعض الحقوق و الإمتيازات الأخرى التي لا مثيل لها في عقود القانون الخاص ، التي لا تهدر مصلحة المتعاقد وإنما تجعل مصلحته ثانوية بالنسبة للمصلحة العامة .( )
المبحث الثالث
التعريف بالعقد الإداري
اختلف القضاء و الفقه في وضع تعريف محدد للعقود الإدارية، وقد حاول القضاء الإداري في فرنسا ومصر والعراق حسم هذا الخلاف بتحديد المبادئ الرئيسية للعقود الإدارية.
وفي ذلك عرفت المحكمة الإدارية العليا في مصر العقد الإداري بأنه" العقد الذي يبرمه شخص معنوي من أشخاص القانون العام بقصد إدارة مرفق عام أو بمناسبة تسييره، وأن تظهر نيته في الأخذ بأسلوب القانون العام، وذلك بتضمين العقد شرطاً أو شروطاً غير مألوفة في عقود القانون الخاص".( )
وقد أيد جانب كبير من الفقهاء في مصر هذا الاتجاه، منهم الدكتور سليمان محمد الطماوي، الذي ذهب إلى أن العقد الإداري" هو العقد الذي يبرمه شخص معنوي عام بقصد تسيير مرفق عام أو تنظيمه، وتظهر في نية الإدارة في الأخذ بأحكام القانون العام، وآية ذلك أن يتضمن شروطاً استثنائية وغير مألوفة في القانون الخاص أو يخول المتعاقد مع الإدارة الاشتراك مباشرة في تسيير المرفق العام" . ( )
ويبدو أن الرأي الغالب سواء في مصر أم العراق قد أستقر على أن العقد يكتسب صفته الإدارية إذا توافرت فيه ثلاثة عناصر هي :
1- أن يكون أحد طرفي العقد شخصاً معنوياً.
2- أن يتصل هذا العقد بمرفق عام .
3- أن تختار الإدارة وسائل القانون العام .
الفصل الثاني
المعيار المميز للعقد الإداري
مر تمييز العقد الإداري عن عقود الإدارة الأخرى بمراحل زمنية متعاقبة بدأت بمحاولة المشرع تمييز عقود الإدارة بإرادته، وفق ما يسمى في نظرية العقد الإداري بمرحلة العقود الإدارية بتحديد القانون ثم أعقبت ذلك مرحلة أخرى وضع فيها القضاء الإداري عدة معايير للتمييز سميت بمرحلة التمييز القضائي للعقود الإدارية .
وفي هذا الفصل نبحث هاتين المرحلتين من مراحل تمييز العقود الإدارية .
المبحث الأول
العقود الإدارية بتحديد القانون
Contrats Administratif par Determination delaloi
يلجأ المشرع في بعض الأحيان – وعندما يجد أن تطبيق نظام القانون العام أكثر ملائمة لحل المنازعات المعروضة من القانون الخاص – إلى إضفاء الصفة الإدارية على بعض العقود ويقرر اختصاص القاضي الإداري بالنظر فيما تثيره من منازعات ويطلق على هذه العقود، العقود الإدارية بتحديد القانون. ( )
وقد ظهر هذا التحديد أول مرة في نص المشرع الفرنسي في بداية عهد الثورة الفرنسية عندما وصف بعض العقود بأنها إدارية وخص مجلس الدولة فيما تثيره من منازعات سعياً منها لتطبيق مبدأ الفصل بين السلطات بمنع القضاء العادي من التصدي لأعمال الإدارة، فجعل اختصاص النظر في المنازعات في شأن بعض العقود لمجلس الدولة
وقد تمثلت النصوص التي عقدت الاختصاص فيما تثيره من منازعات لمجلس الأقاليم بموجب قانون (28) بلفوز " السنة الثامنة للثورة". ( )
وكذلك المرسوم الصادر في 11-6-1806 المتعلق بعقود التوريد و القانون الصادر في 17-7-1790 و 26-9-1793 المتعلق بعقود القروض العامة وعقود بيع أملاك الدولة و المرسوم بقانون الصادر في 17-6-1930 عد كل عقد يتضمن شغلا لمال عام عقدا إدارياً في كل الحالات أياً كان شكله أو تسميته وسواء أبرمته الإدارة المركزية أم جهاز لا مركزي إقليمي أو مرفقي أو ملتزم لمرفق عام.
أما في مصر فقد حدد المشرع في المادة العاشرة من القانون (74) لسنة 1972 بشأن مجلس الدولة، العقود الإدارية التي يختص مجلس الدولة بنظر المنازعات الناشئة عنها بالنص "تختص محاكم مجلس الدولة دون غيرها بالفصل في المسائل الآتية : حادي عشر : المنازعات الخاصة بعقود الالتزام أو الأشغال العامة أو التوريد أو بأي عقد اداري آخر."
وقد افرد المشرع العراقي لبعض عقود الادارة تشريعات خاصة مما يدل على كونها عقودا ادارية , ومنها عقود تنفيذ مشاريع التنمية الكبرى المبرمة استنادا الى احكام قانون تنفيذ مشاريع التنمية الكبرى رقم 60 لسنة 1985 عقود بيع وايجار اموال الدولة التي ينظم احكامها القانون رقم 32 لسنة1986.
وقد تعرضت فكرة التحديد القانوني للعقود الإدارية لكثير من النقد لأسباب ترجع إلى طبيعة بعض العقود التي قد لا تتلائم مع التكييف الذي يضفيه عليها المشرع، وفي الحالات التي ينسجم فيها هذا التكييف مع طبيعة العقد ومضمونة فإن تحديد المشرع له يكون كاشفاً فقط.
لذلك نعتقد أن ترك تحديد العقود الإدارية للقضاء لا شك أقدر على كشف الطبيعة القانونية لها، خاصة إذا كان هذا القضاء إدارياً متخصصاً.
المبحث الثاني
التمييز القضائي للعقود الإدارية
إزاء الانتقادات الموجهة لتحديد المشرع للعقود الإدارية و سعي القضاء نحو توسيع اختصاصه ليشمل عقوداً أخرى لسد ما في التشريع من نقص – تكفل القضاء بالبحث في الطبيعة القانونية للعقد وفق معايير محددة من قبل، وفي حالة توفرها يكون العقد إدارياً وبعكسه يبقى العقد ضمن دائرة القانون الخاص.
وقد ظهرت هذه المعايير نتيجة لتطور قضائي طويل انتقلت فيه غلبة كل معيار على الأخر تباعاً .
وسنتكلم فيما يأتي عن المعايير التي اعتمدها القضاء و الفقه الإداريان في تمييز العقود الإدارية.
أولاً :- أن تكون الإدارة طرف في العقد
من المسلم به أن العقد الذي لا تكون الإدارة طرفاً فيه لا يعد عقداً إدارياً، وهذا الشرط تستلزمه المبادئ العامة للقانون الإداري الذي وجد ليحكم نشاط السلطات الإدارية أما العقود التي تبرم بين الأفراد أو أشخاص القانون الخاص الأخرى فأنها تعد من عقود القانون الخاص ولو أبرمت لتحقيق المصلحة العامة .
وأشخاص القانون العام تتمثل بالدولة و الوزارات و المؤسسات الإدارية التابعة لها فضلاً عن الأشخاص العامة المحلية من محافظات ومدن وأحياء يضفي القانون عليها الشخصية المعنوية .
وفي هذا السبيل فقد استقر الرأي على استبعاد عقود القانون الخاص ولو حققت مصلحة عامة إلا في أحوال معينة بالقياس إلى العقود التي تبرم باسم الإدارة ولحسابها، وقد ذهب القضاء الإداري في فرنسا ومصر إلى أن العقود التي تبرمها الإدارة مع أشخاص القانون الخاص تعد إدارية إذا ما ظهر أن أحد المتعاقدين قد تعاقد باسم الإدارة ولحسابها متى توفرت الشروط الأخرى من اتصال العقد بالمرفق العام وتضمينه شروطاً استثنائية .
وقد طبقت محكمة التنازع هذا الاتجاه في حكم له بشأن عقد أبرمته إحدى شركات الاقتصاد المختلط مع منشأة خاصة وتتلخص وقائع هذه القضية في أن شركة الاقتصاد المختلط التي كانت ملتزمة بتسوية وتمهيد لقريتي " ماسي و انتوني " بالتعاقد مع منشأة خاصة لمعاونتها في القيام بهذه الأشغال واعتبرت المحكمة في قرارها العقد إدارياً على أساس أن شركة الاقتصاد المختلط لم تتصرف إلا باسم قريتي " ماسي و انتوني " ولحسابها.( )
وقد سلكت محكمة القضاء الإداري في مصر النهج نفسه في حكمها الصادر في 24-4-1956 الذي جاء فيه" متى كان الثابت أن وزارة التموين بصفتها المشرفة على مرفق التموين بالبلاد تدخلت في أمر سلعة الشاي و اتخذت من الإجراءات وأصدرت من التشريعات ما رأته كفيلاً بتحقيق ما تهدف إليه من توفير سلعة من السلع مع ضمان وصولها إلى المستهلكين بالسعر المحدد وقد استعملت في سبيل ذلك سلطتها في الاستيلاء على هذه السلعة، ووضعت القواعد التي تحكم تنظيم تداولها وتوزيعها وعهدت بذلك " لجنة توزيع الشاي " ثم المعبئين الذين أصبحوا مسؤلين عن توصيل هذه السلعة بعد تعبئتها إلى التجار في مختلف أنحاء البلاد، متى كان ثابت مما تقدم فإن ذلك في حقيقته يتضمن أمراً بتكليف هذه اللجنة بخدمة عامـة ومن ثم تكون الاتفاقـات و العقود التي تعقدهـا اللجنة هـي عقود إدارية". ( )
ولا يمكن اعتبار هذا القرار خروجاً على شرط أن تكون الإدارة أحد طرفي العقد، فإذا تعاقد طرف من العقد باسم الإدارة ولحسابها فإنه يعد نائباً عن الإدارة و تنصرف آثار العقد إلى الجهة الإدارية، ولو أن محكمة القضاء الإداري لم تبين بصورة واضحة هذه الفكرة .
ومن ثم فأن المعيار العضوي لا يكفي لوحده لتمييز العقد الإداري ففي الكثير من الأحيان تكون الإدارة طرف في هذا العقد إلا أنه يعد من عقود القانون الخاص بيد أن شرط وجودها طرفاً في العقد يبقى شرطا ًأساساً لإضفاء الصفة الإدارية عليه إذا ما عزز بالشروط الأخرى التي يستلزمها القضاء كمعيار لتمييز العقد الإداري .
ومع ذلك فقد استقر القضاء الإداري الفرنسي على وصف العقود بين شخصين من أشخاص القانون العام عقودا إدارية ما لم يثبت العكس .
ومن ذلك قرار محكمة التنازع عام 1938 في حكم U.A.P وحكم مجلس الدولة في 8-1-1988 الذي اعتبر فيها الاتفاقات بين حاكم أحد المقاطعات بشأن تحديد توزيع المرافق العامة بين الدول و المحليات من قبيل العقود الإدارية. ( )
ثانياً : اتصال العقد بنشاط مرفق عام .
Le Rattachement Aune activite Deservice Public.
لا يكفي لاعتبار العقد إدارياً أن تكون الإدارة أحد الأطراف إنما يجب البحث فيما إذا كان العقد متعلقاً بمرفق عام على وجه من الوجوه.
وبعد أن كان القضاء في فرنسا ومصر يتبنى المعنى العضوي للمرفق تطورت أحكامه للجمع بين المعنيين – ثم استقر فيما بعد على المعنى الموضوعي – فعرف المرفق العام بأنه النشاط الذي تتولاه الدولة أو الأشخاص العامة الأخرى، مباشرة أو التعهد به إلى آخرين كالأفراد أو الأشخاص المعنوية الخاصة، ولكن تحت أشرافها ومراقبتها وتوجيهاتها وذلك لإشباع حاجات ذات نفع عام تحقيقاً للصالح العام
تطور فكرة المرفق العام :
ظهرت فكرة المرفق العام وتبلورت ابتدءاً من الربع الأخير من القرن التاسع عشر فأصبحت الفكرة الأساسية، التي اعتمدتها أحكام مجلس الدولة الفرنسية ومحكمة التنازع في تقرير معيار الاختصاص القضاء الإداري ومن حكم Rotschild الصادر في 6-9-1855 و Dekeister عام 1861 و Blanco بتاريخ 8-2-1873. وعزز هذا الاتجاه وضع العميد Duguit لأسس نظريته عن المرافق العامة التي كان لها شأن كبير في نظريات القانون الإداري التي باتت تقوم على اعتبار المرفق العام و مقتضيات سيره، المبرر الوحيد لوجود نظام قانوني خارج عن المألوف في قواعد القانون الخاص. ( )
و الدولة في هذا الاتجاه تسعى نحو تحقيق هدف معين هو حسن أداء المرافق العامة، وتستعمل في هذا السبيل وسائل القانون العام، لأن المرفق العام أصبح يمثل الفكرة الأساسية التي يقوم عليها القانون الإداري الذي أصبح يسمى " قانون المرافق العامه" ويتحدد نطاق تطبيقه على أساسها.
وعلى هذا الأساس فأن العقود الإدارية لا تكتسب صفتها هذه إلا إذا اتصلت بنشاط مرفق من المرافق العامة، فأصبحت هذه النظرية معياراً مميزاً للعقد الإداري عن عقود القانون الخاص.
ونتيجة لتطور الحياة الإدارية، و التغيرات الكبيرة التي طرأت في القواعد التي نهضت عليها فكرة المرافق العامة، بتأثير من سياسة الاقتصاد الموجه و المبادئ الاشتراكية وزيادة تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي و الاجتماعي وما رافق ذلك من ظهور المرافق الاقتصادية و الاجتماعية و الصناعية و المرافق ا لمهنية المختلفة، لم تعد نظرية المرافق العامة تحظى بأهميتها السابقة مما عرضها للنقد الشديد.
حتى ذهب البعض إلى القول أن مفهوم المرفق وأهميته بالنسبة للقانون الإداري قد أصبحت ثانوية، في حين أعتبر آخرون ما حصل تطوراً في مفهوم المرفق العام. ( )
ومع ما أصاب هذه النظرية من نقد بقيت أحكام مجلس الدولة الفرنسي و المصري تؤكد ضرورة اتصال العقد بنشاط مرفق عام لإضفاء الصفة الإدارية عليه.
غير أن من الفقهاء من ذهب إلى أن فكرة المرفق العام كمعيار لتمييز العقد الإداري لم تعد كافية أو صالحة للتطبيق. ( )
مما جعل من الضروري أن يحدد هذا المعيار بإضافة عنصر جديد يتمثل باستعمال أساليب القانون العام، بعد أن تبين ما في فكرة المرفق العام من سعة وعدم اقتصار على المرافق الإدارية وشموله للمرافق الاقتصادية و التجارية وتجلى ذلك بظهور المعيار المزدوج الذي يجمع بين فكرتي المرفق العام واستخدم وسائل القانون العام.
ففي عام 1903 أصدر مجلس الدولة الفرنسي حكمه في قضية "Terrir " الذي كان يمثل مع تقريره مفوض الدولة "Romieu " نقطة تحول في قرارات مجلس الدولة ، فقد تعرض مفوض الدولة في تقريره إلى النظرية الإدارية الخاصة بوصفها معياراً لتوزيع الاختصاص بين القضائين المدني و الإداري وورد في تقريره" وتتم هذه التفرقة بين ما اقترح تسميته بالإدارة العامة Gest - Publ و الإدارة الخاصة Gest -Privee أما على أساس طبيعة المرفق محل النظر وأما على أساس التصرف الذي يتعين تقديره فقد يكون المرفق مع أهميته لشخص لعام لا يتعلق إلا بالإدارة دومينه خاص، وفي هذه الحالة يعتبر الشخص العام يتصرف كشخص خاص، كمالك في أوضاع القواعد العامة. ومن جهة أخرى قد يحدث أن الإدارة وأن تصرفت لا كشخص خاص ولكن كشخص عام لمصلحة مرفق عام بالمعنى الحقيقي لا تتمسك بالإفادة من مركزها كشخص عام وتضع نفسها باختيارها في نفس أوضاع الفرد سواء بإبرام أحد عقود القواعد العامة ذي طابع حدده التقنيين المدني بوضوح " استئجار عقار مثلا لتقر فيه مكاتب إدارة ما" لا يفترض بذاته تطبيق أية قاعدة خاصة بتسيير المرافق العامة". ( )
ومن هذا التاريخ اتجهت آراء الفقه في الأغلب إلى رأي مفاده أن الإدارة إذا ما اتبعت أساليب القانون العام فإن عقودها تنطبع بالطابع الإداري أما إذا كانت أساليبها متشابهه لأساليب الأفراد في القانون الخاص فتكون عقودها مدنية أو تجارية.
وأخذت قرارات مجلس الدولة الفرنسية تتوالى مؤكدة الاتجاه ذاته ومن ذلك حكم المجلس في 31-7-1912 في قضية شركة الجرانيت ورد" ومن حيث أن العقد المبرم بين المدينة و الشركة خلا من أي أشغال تنفذها الشركة وكان محله الوحيد التوريد عند التسليم حسب قواعد وشروط العقود المبرمة بين الأفراد، وإنه بهذا يثير الطلب منازعة لا يختص القضاء الإداري بنظرها". ( )
وعلى هذا الأساس برزت فكرة العيار المزدوج في فرنسا التي تعد عقدا إدارياً إذا كانت الإدارة طرفاً فيه واتصل العقد بمرفق عام واتجهت نية الإدارة إلا الأخذ بأسلوب القانون العام.
ومنذ ذلك الوقت برز مفهوم الشروط الإستثنائية غير المألوفة التي تخرج عن المألوف في قواعد القانون المدني معياراً رئيسياً ينهض إلى جانب معيار المرفق العام للتعبير عن نية الإدارة في أتباع أسلوب القانون العام.
فلا يكفي وفق هذه النظرية اتصال العقد بمرفق عام لإضفاء الصفة الإدارية على العقد مثلما لا يكفي تضمن العقد لشروط استثنائية لاعتباره عقداً إدارياً. ( )
وفي ذلك قضت المحكمة الإدارية العليا في مصر أن علاقة العقد بالمرفق العام إذا كانت ضرورية لكي يصبح العقد إدارياً ليس كافية لمنحة تلك الصفة، اعتبار بأن قواعد القانون العام ليست علاقة حتمية بالمرفق إذ أنه مع اتصال العقد بالمرفق العام فإن الإدارة قد لا تلجأ في أبرامة إلى أسلوب القانون العام لما تراه من مصلحتها في العدول عن ذلك إلى أسلوب القانون الخاص. ( )
وبالرغم من التأييد الكبير الذي حظيت به فكرة المعيار المزدوج حاول أنصار نظرية المرفق العام إحياء نظريتهم و الاكتفاء بها معياراً وحيداً لتمييز العقد الإداري واستبعاد وسائل القانون العام ممثلة في الشروط الإستثنائية عن طريق أساليب عدة لعل من أهمها نظرية اشتراك المتعاقد في تسيير المرفق العام.
نظرية اشتراك المتعاقد في تسيير المرفق العام:
بتاريخ 20-4-1956 إصدار مجلس الدولة الفرنسي قرار مهما عد إحياء لنظرية المرفق العام، ينحصر مضمونة على أن العقد الذي يعهد إلى المتعاقد بتنفيذ المرفق العام ذاته يعد إدارياً دون البحث في صفة العقد الإداري أو تضمينه شروطاً غير مألوفة .
وتتلخص وقائع هذا الحكم الذي سمي بحكم الزوجين بيرتان"Epoux Bertin إنه عندما انتهت الحرب العالمية الثانية وضع الرعاية الروس الموجودين في فرنسا في مراكز الإيواء تمهيداً إلى ترحيلهم إلى بلادهم وفي تاريخ 24-11-1944 أبرم عقد شفوي بين رئيس أحد هذه المراكز والزوجان " بيرتان " يلتزم هذان الزوجان بمقتضاه بتغذية اللاجئين مقابل مبلغ محدد من المال عن كل فرد في اليوم .
أدعى الزوجان عام 1945 أن المقابل المستحق لها قد زاد مقداره نتيجة لزيادة كميات الأغذية التي قدمت للاجئين بأمر المركز وطلبا صرف المقابل لهذه الزيادة ، إلا أن الوزارة المشرفة على المعسكرات رفضت الدفع . فأقام الزوجان الدعوى أمام مجلس الدولة .
دفعت الوزارة بعدم اختصاص مجلس الدولة بنظر النزاع مستنده أن العقد لم يتضمن شروطاً استثنائية ولذلك فهو لا يعد عقداً إدارياً .
إلا أن مجلس الدولة رفض هذا الدفع وحكم " إن محل هذا العقد أن يعهد في هذا الصدد إلى أصحاب الشأن بتنفيذ المرفق العام ذاته lexecution memme du service public المكلف آنذاك بكفالة إعادة اللاجئين من جنسيات أجنبية الموجودين في إقليم فرنسا إلى أوطانهم وإن هذا الظرف يكفي بذاته في دمغ العقد محل البحث بصفة العقد الإداري ؛ وأنه يترتب على ذلك دون حاجة لبحث ما إذا كان العقد المذكور يتضمن شروطاً غير مألوفة في القواعد العامة." ( )
وبعد هذا الحكم بعشرين يوماً أصدر مجلس الدولة قراراً آخر يؤكد هذا المبدأ في قضية Gondrand .
ودرجت محكمة التنازع على ذلك ففي قضية Houend في 12-6-1978 وفي قرارين اعتبرت المحكمة عمل موظفه في مدرسة للفتيات تقوم بمراقبة نوم الفتيات " النهوض والنوم " اشتراكاً بصورة مباشرة في تنفيذ خدمة عامة تخص التعليم وكذلك اعتبرت عمل زوجها وهو عامل مكلف بصيانة بعض الأجهزة وتعليم الطلاب استعمالها .
وفي المجال نفسه اطردت أحكام القضاء الإداري الفرنسي على اعتبار الفنانين الذين يعملون في المسرح البلدي كالمغنيين أو الراقصات أو العازفين ، مشتركين في تنفيذ المرفق العام وهو ما قضت به محكمة التنازع في 17-1-1979 في قضية : Dme le Cachey et autres . ( (
وقد وجد هذا الاتجاه تطبيقا له في قضاء ً محكمة القضاء الإداري المصري فورد في قرار لها في 27-1-1963 " قاعدة ضرورة اطراد سير المرافق العامة تتطلب أن تطبق على الأشخاص الذين يساهمون في تسيير قواعد معينة لا يجب تعليق تطبيقها على وجود أو تخلف شروط غير مألوفة في العقد المبرم بين الشخص المعنوي العام وبين الأفراد المعاونين له ، خاصة إذا توافرت للمرفق أهمية خاصة أو بلغت معاونة الفرد المتعاقد مع الإدارة درجة كبيرة فإن معيار العقد الإداري يكون حينئذ معياراً منفرداً قائما بذاته لا ضرورة ً لبحث شروطه من ناحية ما إذا كانت تتضمن استثناءات غير مألوفة في القانون الخاص " . ( )
وفي الاتجاه نفسه تقريباً برزت أحكام تعد اشتراك المتعاقد في تيسير المرفق بصورة دائمة particiption du Concontrant a lexecution du service public. كافياً لإضفاء الصفة الإدارية على العقد دون الحاجة للبحث عما يحتويه من شروط استثنائية غير مألوفة . وقد أيد جانب في الفقه هذا الاتجاه فذهب pequignot إلى القول إن اشتراك المتعاقد في تسيير المرفق بصفة دائمة يجعل العقد إدارياً في جميع الأحوال دون اللجوء إلى البحث فيما إذا كان العقد يحتوي على شروط غير مألوفة أم لا ، وقد طبق "بكينو" هذه الفكرة في عقود إجارة الأشخاص والخدمات وعقود الامتياز . ( )
وعلى هذا فأن العقد الذي يعهد إلى المتعاقد بصورة مباشرة بتنفيذ المرفق نفسه أو يتضمن اشتراك المتعاقد في تسيير المرفق بصفة دائمة يعد إدارياً دون الحاجة إلى أي شروط أخرى .
وقد عد أنصار فكرة المرفق ذاته إن أحكام مجلس الدولة المؤيدة لاتجاههم قد أدت إلى استبعاد الرأي القائل بصلاحية الشروط غير المألوفة لتكون معياراً وحيداً لتمييز العقد الإداري ، وإن هذه الفكرة أعادت الأهمية لنظرية المرفق العام .
فذهب Lamarque إلى إن المعيار المأخوذ من موضوع العقد ـ ويقصد معيار تنفيذ المرفق ذاته ـ يبدو أكثر إيجابية . وإن اعتبار العقد إدارياً إذا احتوى على شروط غير مألوفة لا يضفي إلى العقد إلا عنصراً إضافياً ".( )
في حين ذهب prosper إلى القول أن معيار العقد الإداري أصبح بصدور حكم "بيرتان" في أزمة بددت الاستقرار والـتوازن الذي استمر لفترة طويلة في ظل المعيار المزدوج.( )
كما أيد هذا القضاء جانب من الفقهاء في مصر ومنهم الدكتور عبد الفتاح حسن الذي قال : " لذلك لا غرو أن يكون حكم مجلس الدولة الذي صدر في 20-4-1956 م- يقصد حكم بيرتان – من أحكام المبادئ أعاد الحياة لقضاء قديم ، وإعادة شاباً يعمل في مجالات أكثر أتساعاً.." ( )
إلا أن ذلك لا يعني إجماع من القضاء والفقه حول اعتماد هذا المبدأ معياراً كافياً لتميز العقد الإداري فما زالت نظرية الشروط الإستثنائية تتمتع بأهمية كبيرة في هذا المجال وتحظى بتأييد جانب كبير من الفقهاء .
ثالثاً : إتباع أسلوب القانون العام :
Lemploi du procede de Droit public
بعد تراجع نظرية المرفق العام أساساً وحيداً للقانون الإداري ومعياراً لتمييز العقد الإداري دعا طائفة من الفقهاء إلى ضرورة إبراز دور السلطة العامة في تمييز العقد الإداري ، من خلال البحث فيما يتضمنه العقد من شروط استثنائية خارجة عن القانون الخاص . تكشف عن نية المتعاقدين في إتباع أسلوب القانون العام ، وإخضاع العقد لقواعده وأحكامه .( )
وقد برز هذا الاتجاه أولاً في حكم مجلس الدولة الفرنسي في قضية Terrier عام 1903 ثم ما لبث أن توالت أحكام مجلس الدولة في الاتجاه نفسه فصدر في عام 1912 م حكم المجلس في قضية " شركة الجرانيت " إذ وضع مفوض الدولة Leon blum مبدأ عاماً يتعلق بمعيار التمييز بين العقود الإدارية وعقود القانون الخاص ، فبين في تقريره : " إذا تعلق الأمر بعقد يجب البحث ليس عن الغاية من إبرامه ، ولكن ما هو العقد بذات طبيعته ، ولا يكفي لكي يختص القاضي الإداري وجوب استعمال التوريد وهو محل العقد عقب تمامه لمرفق عام ؛ فيجب أن يكون هذا العقد بذاته وبطبيعته الخاصة أما من العقود التي لا يستطيع أن يعقدها ألا شخص عام أو أن يكون بشكله وتكوينه عقداً إدارياً .. فما يجب بحثه هو طبيعة العقد ذاته استقلالا عن الشخص الذي عقده والغاية التي أبرم من أجلـها " . ( )
وعلى ذلك لم يعد اتصال العقد بالمرفق العام كافياً لكي يكتسب الصفة الإدارية ، أنما يلزم أن تكشف الإدارة عن نيتها في اختيار أسلوب القانون العام ، والوسيلة في ذلك هي تضمن العقد شروطاً استثنائية غير مألوفة في القانون الخاص .
ولأهمية هذه الشروط ،أصبحت علامة مميزة يمكن الاسترشاد بها في تقرير الطبيعة الإدارية للعقود التي تبرمها الإدارة بصفتها سلطة عامة تتمتع بإمتيازات لا يتمتع بها الفرد العادي ، وتخضع العقد لنظام قانوني هو نظام القانون العام .
ولا شك أن فكرة الشروط الإستثنائية تتطلب الكثير من البحث لما ثار حولها من جدل في فقه القانون الإداري وأحكام القضاء التي لم توضح بصورة قاطعة مضمون هذه الشروط .
يكتب الأستاذ pequignot عن فكرة الشروط الإستثنائية فيقول :" أنها تبدو صعبة التحديد في أحكام القضاء الإداري .. وأنه من الصعب أن نجد في أحكام القضاء الإداري تحديداً للشروط التي يعدها هذا القضاء غير عادية" . ( )
في حين عد Vedel معيار الشروط الإستثنائية المعيار الحقيقي للعقد الإداري وهو الوحيد الذي يكشف عن إرادة المتعاقدين في إتباع أسلوب القانون العام .
إذا كتب في هذا الصدد " الشرط الاستثنائي هو المعيار الوحيد الكافي لإضفاء الصفة الإدارية على العقد فمضمون العقد هو الذي يبين الشروط الخارجة عن القانون الخاص ، ونية الإدارة في تمسكها بمباشرة حقوق السلطة العامة ، ومعرفة التصرف الذي تتخذه الإدارة في ظل نظام السلطة العامة لا يتحقق إلا من طريق واحد هو الاختيار الذي قررته الإدارة بموافقة المتعاقد وذلك ما يكشف عن وجود الشروط الإستثنائية أو غيابها".( )
تقدير نظرية الشروط الإستثنائية :
لم تسلم نظرية الشروط الإستثنائية معياراً وحيداً للعقد الإداري ، من النقد وفي هذا المجال ذهب بعض الفقهاء إلى القول أن معيار الشرط غير المألوف أثار صعوبات كبيرة ساعد عليها القضاء الإداري في عجزه عن تعريف الشرط غير المألوف واتساع مفهومه ليشمل أنواع عديدة من الشروط من قبيل الشروط المانحة للإدارة إمتيازات في مواجهة المتعاقد معها كحق الإدارة بالرقابة والتوجيه ، فهي وان كانت من الشروط الغير المألوفة فأنها لا تعد مجهولة في عقود الأفراد العاديين وهي ليست حكراً على عقود القانون العام . إذ من الممكن أن تتضمنها عقود الإذعان والعقود المبرمة بين الشركات متفاوتة القدرة والاتساع مما يتيح لأحد الأطراف أن يملي شروط أحادية الجانب من حيث الأسعار وظروف الدفع .
ومن هؤلاء الأساتذة Lamarque الذي يضيف بالقول " أن الدور الذي نسب إلى الشرط غير المألوف دوراً مصطنعاً مجرد من كل قيمة منطقية جوهرية .( )
بيد أن هذه الانتقادات لم تقض نهائياً على معيار الشروط غير المألوفة أنما جعل لها دوراً ثانوياً فهو يتمتع بأهمية ، خاصة عندما لا يكون العقد إدارياً في مضمونه باتصاله بالمرفق العام ، إذ يتم البحث عن الشروط غير المألوفة في حالة عدم القدرة على حسم ما إذا كان العقد يتضمن مشاركة في تنفيذ المرفق ذاته وهو ما عرف بالمعيار المتناوب .
وبالاتجاه نفسه يذهب Chapus إلى أنه يجب أن لا يعتقد إن معيار البند أو الشروط المخالفة دائماً معيار مساعد ، فالمعيار المأخوذ من الموضوع هو دائما معيارً مبدأ ، ففي كثير من الحالات يفضل القاضي استخدام معيار الشرط غير المألوف ، فهذا يمكن أن يكون أكثر تناسباً من غيره ويجب أن لا ننسى أن معيار الشرط غير المألوف يستطيع هو بمفرده إعطاء صفة إدارية لكل عقد .( )
إلا أن المعيار المتناوب هو الآخر لم يسلم من النقد إذا قاد تطبيقه في القضاء الإداري الفرنسي إلى نتائج غير مقبولة في بعض الأحيان ، من ذلك قرار محكمة التنازع في 25-11-1963 في قضية Vve Mazerand "مدام مازران" وهي مستخدمة في مدرسة عام 1942 وحتى عام 1946 من أجل تنظيف الأبنية ومسؤولة عن الإنارة وصيانة آلات التدفئة ثم قامت بعد ذلك بتنظيم حضانة للأطفال في المدرسة ومنذ عام 1946 إلى 1952 كان عليها أن تخدم في هذه الحضانة فحكمت محكمة التنازع أن العقد الذي يربطها بالبلدة هو من اختصاص القانون الخاص بين 1942 و 1946 ولكنه إداري من 1946 إلى 1952 .
مما توجب على السيدة "مازران" أن تقيم دعويين واحدة أمام المحاكم العادية والأخرى أمام القضاء الإداري . وهذا قضاء غريب تكرر في أحكام أخرى منها قرار محكمة التنازع في 26-11-1990 في قضية Mlle Salliege استخدمت فيها السيدة من قبل المستشفى ابتداء لمساعدة المرضـى أثناء تنقلهـم ( مشاركة مباشرة في الخدمة الطبية ) وكذلك في أعمال غسل الملابس ( غياب المشاركة المباشرة ) وقد تم تكليفها بهذه الأعمال الأخيرة بعد ذلك فأصبحت شخص من أشخاص القانون الخاص ، وبما أنه قد تم تسريحها من الخدمة وهي تملك الصفة الأخيرة فإن النزاع يعد من اختصاص المحاكم العادية .( )
إزاء ذلك لا نعتقد بصلاحية المعيار المتناوب ليكون معياراً كافياً لتمييز العقد الإداري ولا نرى مانعاً من أن يشتمل معيار التمييز المبادئ الثلاثة التي توصل إليها القضاء الإداري في سنوات تطوره التي استغرقت عقوداً من الزمن ، وهذا المعيار التخييري يوكل به قاضي الموضوع إذ يتفحص العقد ويطبق كل مبدأ من هذه المبادئ فإذا ما تحقق من توافر أحدها فيه كان العقد إدارياً دون الحاجة للبحث في توافرها معاً ، وإن هذه المبادئ متساوية في أهميتها فليس هناك مبدأ رئيسي وآخر مساعد وهذه المبادئ هي :
المبدأ الأول : الاشتراك المباشر في تنفيذ المرفق العام ذاته. ويقوم هذا المبدأ على أساس اعتبار العقد الذي يتضمن تنفيذ المتعاقد للمرفق العام ذاته عقداً إدارياً دون الحاجة لوجود الشروط غير المألوفة. وقد ظهر هذا المعيار بحكم بيرتان 1956 وحقق نجاحاً كبيراً من خلال شموله أغلب الموظفين في الإدارات العامة واعتبار عقود توظيفهم إدارية .
وفي هذا السبيل عد مجلس الدولة الفرنسي العديد من العقود إدارية لأن موضوعها هو تنفيذ مرفق عام ففي قرار مجلس الدولة في قضية Soc-Codiam في 8-6-1994 عد العقد إدارياً عندما أبرمته مستشفى مع شركة أجهزة التلفاز لتأجير أجهزة إلى المرضى. باعتبار أن خدمة الاستشفاء تعني بالإضافة للعناية الطبية تحسين ظروف الإقامة للمرضى كذلك عدت محكمة التنازع في قرار حديث لها في 16-1-1995 في قضية Cie nat,du Rhoc ,EDF العقد إدارياً لأنه يسمح بأن تستخدم شركة الكهرباء الفرنسية الطاقة المنتجة من الشركة الوطنية لمنطقة (الرون) باعتبار أن هذا العقد يتضمن تنسيقاً لوظائف الشركتين المتعلقة بالمرفق العام. ( )
وهذا المبدأ في الحقيقة يتسم بسهولة التطبيق إذ تكفي الإشارة إلى طبيعة المهمة التي كان يمارسها المتعاقد مع الإدارة لمعرفة العقد فيما إذا كان إدارياً من عدمه، بالإضافة إلى أنه عد أغلب عقود التوظيف في الإدارات العامة عقوداً إدارية ومن ذلك عقود الأطباء والمهندسين والأساتذة والعاملين في المسارح العامة .
غير أنه مع حسنة شموله جميع الموظفين بمظلة القانون العام فإن القول به سيؤدي في النهاية إلى عدم الحاجة إلى البحث في مدى ارتباط مبدأ المشاركة في تنفيذ المرفق في العقد الإداري لأن جل عقود الوظيفة العامة ستعد إدارية من حيث الموضوع حتماً .
المبدأ الثاني : الشروط غير المألوفة : إن عدم تنفيذ المتعاقد للمرفق ذاته لا يجعل من العقد من عقود القانون الخاص حتماً ، إذ يتوجب على القاضي أن يبحث فيما إذا كان العقد محتوياً على شروط غير مألوفة من عدمه .
ففي هذه الحالة يستعيد مبدأ الشروط الغير مألوفة، أهميته يذهب الأستاذ Chapus إلى القول أن كل عقد يتم الإفصاح عنه يعود للقانون الخاص ولا يعترف به كعقد إلا تبعاً للتأكد بأنه ليس إدارياً لا في موضوعه ولا من ناحية شروطه .( )
المبدأ الثالث : العقود الإدارية تبعاً لأنظمتها : منذ صدور حكم مجلس الدولة الفرنسي في قضية Riviere du Sant عام 1973 برز الاتجاه الذي يعد العقد إدارياً ليس من خلال ما يحويه من شروط غير مألوفة ولا من خلال تنفيذ المتعاقد للمرفق العام ذاته وإنما لقيام العقد على نظام قانوني غير مألوف، وقد أثار هذا المبدأ عند ظهوره بعض الارتباك بخروجه عن الاستقرار النسبي في ظل المعيار المتناوب .
ونعتقد إن هذا المبدأ يمثل قاعدة ثالثة يمكن الاعتماد عليها في وضع حل لمعضلة التمييز بين العقد الإداري وعقود القانون الخاص ويؤكد ذلك اعتماده من القضاء الإداري الفرنسي في الكثير من الأحكام .
ومع ذلك وباستثناء بعض قرارات محكمة التنازع التي لم تعد العقود خاضعة لنظام قانوني استثنائي مثال ذلك قرارها في 11-10-1993 في قضية Soc-Central siderurgiqe de richemont فأنه لا يمكننا أن ننفي كون أن مبدأ النظام القانوني غير المألوف قد أصبح ركناً أو مبدأ مهماً في تمييز العقد الإداري في الوقت الحاضر .
المبحث الثالث
التعريف بأهم أنواع العقود الإدارية
تبرم الإدارة أنواعاً مختلفة من العقود الإدارية، منها عقود نظمها المشرع بأحكام خاصة ونص عليها في القانون المدني ومنها ما ورد عليه النص في الشروط العامة الخاصة بابرام العقود الإدارية، ومنها ما ترك تحديده للقضاء الإداري .
وفي هذا المبحث سنتناول اربعة من أهم العقود الإدارية التي أشارت إليها اغلب التشريعات العربيه, وهي:
1- عقد الالتزام أو الامتياز .
2- عقد الأشغال العامة .
3- عقد التوريد .
4- عقد البوت.
المطلب الاول
عقد الالتزام أو الامتياز
يعد عقد الالتزام من أهم العقود الإدارية، لأنه يمنح فرد أو شركة الحق بإدارة واستغلال مرفق من المرافق العامة .
عرفته محكمة القضاء الإداري المصرية بقولها ".. إن التزام المرافق العامة ليس إلا عقداً إدارياً يتعهد أحد الأفراد أو الشركات بمقتضاه بالقيام على نفقته وتحت مسئوليته المالية بتكليف من الدولة أو إحدى وحداتها الإدارية، وطبقاً للشروط التي توضع لها، بأداء خدمة عامة للجمهور، وذلك مقابل التصريح له باستغلال المشروع لمدة محددة من الزمن واستيلائه على الأرباح ". ( )
وقد ثار بشأن طبيعة عقد الالتزام خلاف فقهي كبير، إذ ذهب فريق من الفقهاء " الألمان" إلى القول أنه عمل من جانب واحد هو الإدارة. وعلى ذلك فأن آثاره لا تنشأ عن عقد وإنما عن أمر انفرادي تصدر السلطة بإرادتها المنفردة، وتملك تعديله أو إلغائه.
ولم يصادف هذا الرأي القبول لأنه ينفي دور الملتزم في تحديد شروط الالتزام ودور إرادته في إبرامه . ( )
وانقسم الفقه الفرنسي إلى اتجاهين ذهب الأول نحو اعتبار عقد الالتزام من عقود القانون الخاص ، متجاهلاً خصائصه المميزة من حيث منحه الملتزم سلطات من طبيعة خاصة من قبيل سلطته في فرض أعباء مالية على المنتفعين بالمرفق وسلطته في شغل الدومين العام وما إلى ذلك من إمتيازات أخرى ويوفرها له نظام القانون العام .
أم الاتجاه الثاني ويتزعمه الفقيه Duguit فيعتبر الالتزام عملاً قانويناً مركباً يشتمل على نوعين من النصوص الأول منها يتعلق بتنظيم المرفق العام وبسيره، وتملك الإدارة تعديل هذه النصوص وفقاً لحاجة المرفق . أما النوع الثاني من النصوص فيسمى بالنصوص أو الشروط التعاقدية التي تحكمها قاعدة " العقد شريعة المتعاقدين " ومنها ما يتعلق بتحديد مدة الالتزام والإلتزامات المالية بين المتعاقدين ولا تتعدى ذلك لتشمل أسلوب الخدمات للمنتفعين .
وقد لاقى هذا الرأي ترحيباً في القضاء الإداري في فرنسا ومصر إذ أن المسلم به فقها وقضاء إن شروط عقد التزام المرفق العام تنقسم إلى نوعين : شروط لائحية وشروط تعاقدية . الشروط اللائحية فقط هي التي يملك مانح الالتزام تعديلها بإرادته المنفردة في أي وقت وفقاً لمقتضيات المصلحة العامة، دون أن يتوقف ذلك على قبول الملتزم. والمسلم به إن التعريفة أو خطوط السير وما يتعلق بهما، من الشروط اللائحية القابلة للتعديل بإرادة مانح الالتزام المنفردة.
وقد سعى المشرع العراقي نحو تنظيم أحكام عقد التزام المرافق العامة ليكفل حسن سير المرفق محل الالتزام والمساواة في الانتفاع من خدماته في المواد (891- 899 ) من القانون المدني العراقي .
وتمارس الإدارة في مواجهة الملتزم سلطة الرقابة والإشراف على ممارسة عمله وفقاً لشروط العقد والقواعد الأساسية لسير المرافق العامة .
على أن لا تصل سلطة الإدارة في إصدار قراراتها بمناسبة سلطة الرقابة حدا يغير من طبيعة الالتزام وتعديل جوهره أو أن تحل محل الملتزم في إدارة المرفق وإلا خرج عقد الالتزام عن مضمونه، وتغير استغلال المرفق إلى الإدارة المباشرة .